سايلو ...

على الرغم من ضآلة حجمه .. إلا أنه كان شعلة من النشاط .. كلما رأيته لاتخلو يديه من عمل ما .. يحترم عمله .. لأنه مقدس بالنسبة له .. يسعد بإمتداح عمله ... يحسده الآخرون أحيانا .. يثير فضولي غالبا .. خاصة لغته العربية المكسرة.... كان حريصا أن يتحدثها بتكلف واضح .. ينهره عبدالحميد كثيرا .. لأنه مسؤول عن فريقه .. لا يعبأ به في أكثر الأحيان .. لأن مهمته أسهل مما يتصور هو .. يعرف كيف يبرر ما يقوم به .. لايحتاج لمساعدة أحد.. أقترب مني كثيرا.. كنت سعيدا بذلك .. دون أن يعلم.. كنت متأكدا من رغبته في التعليم .. وشوقه إلى ذلك الكتاب .. وأمله بحمله بكلتا يديه .. شريطة أن تكونا طاهرتين .. يعلم أنه كتاب مقدس .. يحاول أن يرتله بصوت له صدى في القلوب.. كان محتاجا للسكينة والاطمئنان .. كان مستمعا فقط .. يجيد فن الانصات .. يبرع فيه .. أخفيت أعجابي المتنامي بشخصه الضئيل .. أقترب أكثر مني .. سألته : عن إسمه ؟ .. أخبرني دون تكلف ..بأدب وإحترام .. قال : أنه سايلو .. بلكنة أعجمية.. وبإبتسامة لم تخلوا من الإستفهام .. أستغل تلك الفرصة السانحة .. أخذ نفسا عميقا ..أسترسل في الحديث .. تحدث بهمة واضحة .. بصراحة لم أفهم ما يقول .. ردد كلامه.. بعد أن جزأه ووزعه على عدة جمل ..إستخدم لغة الإشارة كثيرا.. وكذلك الايماءات المملة .. كان يعتقد أن كلماته قد تكون مفهومة الى حد ما .. خاصة القصد منها .. أذهلني حينما سمعته .. بالفعل كان يقصد شيئا لم يكن في الحسبان .. عكس ما أتوقع .. أكدت له بقولي .. ما في مشكلة !!.. أومأ بهز رأسه كعادته ....إستأذن بأدب ..إبتسم .. مشى رويدا إلى أقرانه .. أستعادت ذاكرتي حديثه معي ..أرمقه من بعيد ..ينظر إلي بنصف عين .. لم يأسف على طلبه .. لم يتردد كثيرا كما كان يتوقع .. تظاهرت باللامبالاة .. ذات يوم .. قسى عليه عبدالحميد .. أمسك يدي لأمر في نفسه .. إستعجل الأمر .. لأنه يدرك شيئا ما في نفسه .. لم يفصح عنه.. أنصت له كثيرا .. بتركيز .. بعض العيون كانت تتبع خطواتنا .. ومناجاتنا .. خلوة في زاوية .. وعدته خيرا .. تنفس الصعداء .. أعرت أمر سايلو أهمية قصوى .. إنها أمانة .. خشية الوقوع في الخطيئة .. من حيث لا أدري .. يكفي .. حسب الموعد كان موجودا .. لانه حريصا ودقيقا .. يحترم المواعيد أكثر مما أتصور .. ذاكرته تسبق تفكيره وزمنه .. لم أستعجل عليه .. بدأت المشوار بخطوة قصيرة .. إستوعبها بسرعة قصوى .. اؤمن بالتدرج .. و التسلسل الزمني والمنطقي .. يدرك حرمة ذلك الشهر .. ويقدسه.. لشعور في داخله لا أعلم مغزاه .. أكد بقوله : ما في خوف !!.. جوابا كافيا .. يخاف من الله فقط .. طمأنني وأنا بحاجة للطمأنينة أيضا .. أستعجل سايلو في خطواته .. وكأن ظله يسبقه .. كبحت جماحه قليلا .. إستوعب بعض التعليمات.. إلتزم فيها .. وضعها في إطارها المحدد .. سبقني الى الموقع .. لحقته بحذر .. وبحذر .. حركات مفاصله تؤكد طهارة قلبه .. بعض أقرانه لايزالون ينظرون اليه بإستغراب .. ينتبهون الى إيماءاته وحركات أصابعه .. يهز رأسه كثيرا مثلهم .. حينما يلتزم الصمت .. ويفضل الإنصات.. يعودون الى أحاديثهم الصاخبة .. لم يلتفت اليهم .. مضى في طريقه .. أخبروني رفاقه .. أكدوا انه جاد .. ألتزم حدود الصبر .. ذات مرة .. سألني عن شيء اثار استغرابي وذهولي .. بدون حياء .. أخبرته عدم الاستعجال .. وهو طاهر في كل الأحوال .. طالما يضم بين أحشائه قلبا أبيضا .. فهم ما أقصد .. وضعه في رأسه ولم يغفله على الإطلاق .. أوشك الشهر أن يودع سريعا .. كعادته .. إطمأن قلبي .. رأيته كانه كاهن في صومعته .. أقتنعت أن الوقت أوشك .. لقد حان الموعد ..كما أقتنع هو إيضا .. إستبدل إسمه وهيئته وكيانه.. في صباح يوم العيد .. وقف أمامهم بفخر .. نطق الشهادتين .. رتل الفاتحة بلسان أعجمي .. صاح أحدهم .. تكبير .. تعالت الأصوات .. جرت دموع العيد قبل موعدها .. تسمى سايلو بإسم سعيد .. لأنه أدرك أن الوقت حان .. ليكون سعيدا.. بعد أكثر من عام .. أخبروني إنه هناك .. بعد نجاح العملية المحرجة .. أبتسمت .. سألني أحدهم .. وعدته سأجاوبه لاحقا .. لأنها خصوصية .. عدت إلى غرفتي .. دونت قصة سعيد في مذكراتي .. مزدحمه بالدموع .. والذكريات الأليمة .. وواقع حزين .

أنتهت ,,,
بقلمي/ناصر الضامري