الفصل (٢٧)
انسان مميز.. وطبيب انسان
"أكتب الان خلال ساعات تلقي العلاج الكيماوي.. قررت أن أكتب عن أحد الأشخاص الرائعين الذين اسعدني المرض بالتعرف بهم.. عن طبيب الأورام الذي تولى علاجي..
شخصية رائعة.. اتمنى لو استنسخ منه مئات النسخ أوزعها على مستشفيات بلادنا ليسعد به مرضانا كما سعدت به.. ولعل الكتابة عنه تكون وسيلتي لهذا الاستنساخ.. ليعلم زملائي في الطب كيف يمكن أن يكون الطبيب انسانا..
يوم التقينا لأول مره.. يوم تشخيصي...بدء بالتحدث بالعربية "اللبنانية" المكسرة ليقول أن والديه من لبنان لكنه لا يعرف من العربية إلا كلمات...بدأ علاقتنا بإيجاد رابط مشترك يجمعننا ليقول...أنا أقرب لك من مجرد طبيب..
في كل مرة يقابلني فيها يدخل للغرفة مبتسما وهاتفا.. "الدكتورة نور البار!!.. سعيد برؤيتك".. حفظ لي مكانتي بمناداتي بالدكتورة.. أظهر سعادته برؤيتي وكأني مريضته الوحيدة والمفضلة.. ما أجمل أن نحفظ مكانة مرضانا. فلا يصح أن ننادي الجميع ب "يا عم " أو "يا خاله".. هناك من نداؤه المفضل هو "أبو فلان" أو "أستاذ فلان" أو "دكتور فلان" وحفظ مكانة المريض واظهار الاهتمام والتقدير لمهنته يشعره أن المرض لم يسحب منه مكانته ومؤهلاته..
في كل مرة يقابلني يكون لديه شيء جميل يقوله.. "تبدين بشكل ممتاز" "انت معجزه.. لا تؤثر فيك الأعراض الجانبية للكيماوي أبدا".. "واو ما أخف حركتك رغم أنه لم يمر على عمليتك سوى أيام".. أنا مندهش من سرعة التئام الجرح لديك" "الجميع يخبرونني أنك تبدين رائعة ولا أحد يتخيل أنك على الكيماوي".. مجاملة المريض بمثل هذه العبارات لا تستغرق الكثير من الوقت ولكنها تعني الكثير بالنسبة له.. فهذه الكلمات تسعده.. تشعره بالثقة.. تقويه.. وجميعها أحاسيس هامة للشفاء.. فكما قال ابن سينا "الوهم نصف الداء والاطمئنان نصف الدواء"
لديه قدرة عجيبة (وهذا أكثر ما يعجبني فيه) على تجنب الحديث بأي كلمة سلبية (الموت، عودة المرض، المضاعفات) واستبدالها بكلمات ايجابية.. تخيل كم يكون هذا صعبا ومحتاجا لفن حقيقي عندما يكون المريض مريض سرطان وفي مرحلة متقدمة وهو مع ذلك ملتزم بالشفافية و لا يحاول التغرير بالمريض ولا اعطائه أمالاً كاذبة...مثلا..
بدلا من أن يقول "الورم ضخم جدا وحجمه 7 سم" يقول "رغم كبر حجم الورم إلا أنه ليس ملتصقا بالجلد ولا بالقفص الصدري وهذا جيد جدا"!!
وبدلا من أن يقول "لا بد من العلاج الاشعاعي وإلا قد يعود المرض" يقول "ثبت بالدراسات أن العلاج الاشعاعي يزيد من نسبة الشفاء التام"..
وبدلا من أن يقول أن الكيماوي يسبب مضاعفات في أعصاب الاطراف قد تصل لآلام شديدة كالكهرباء يقول "في الاغلب يسبب هذا النوع بعض التنميل وعند أغلب الناس يكون تنميلا خفيفا يزول بمجرد انتهاء العلاج. ومن النادر أن يكون أشد من ذلك".. وهكذا وهكذا.. كل جملة يقولها منتقاه بعناية لعلمه أن المريض يتلقى كل كلمة بمنتهى الحرص ويحفظها ويرددها ويقتنع بها..
رأيت عددا كبيرا من الاطباء حتى في أمريكا على عكس ذلك تماما.. فهم يلقون في وجه المريض كل الاعراض الجانبية والمضاعفات وأحيانا لا تكون المعلومات حتى دقيقة ولا صحيحة.. كما قالت لي طبيبة الجراحة في يوم التشخيص.. "الحقيقة أشك في قدرتك على الانجاب ثانية بعد تعرضك للكيماوي" مع انه لم يكن لديها علم بهذه النقطة ثم ثبت أن كلامها كان غير صحيح علميا بالإضافة لأنها ذكرت ذلك بأسلوب فظ وفي وقت غير مناسب على الاطلاق (في نفس ساعة التشخيص).
لديه درجة عالية من المرونة فهو لا يطبق العلاج كما تقول الكتب على الجميع بل يدرس الابحاث الجديدة ويستأذن المريض في أن يأخذ وقته في البحث حتى يصل لخطة علاج تناسب خصوصية كل مريض.. ولأنني لم أكن حالة تقليدية باعتبار الحمل فقد رأيت من مرونته الشيء الكثير...مثلا.. عدد مرات الكيماوي التي تنص عليها الكتب والتي أخذتها خلال الحمل هي 4 وكان يجب أن أذهب للولادة بعد الجلسة الرابعة مع العلم انها ستكون ولادة مبكرة في الشهر السابع لأواصل الكيماوي بعد الولادة مباشرة حتى لا يكون هناك مدة زمنية طويلة بغير علاج مما قد تؤثر على استجابة المرض للعلاج.. فاتصلت به وأبلغته أني أجد صعوبة في تقبل الولادة في الشهر السابع لأن المولودة ستبقى في العناية المركزة أسابيع وربما تحتاج لتنفس اصطناعي.. فطلب مني مهلة أسبوع ليبحث عن حل .. وقام بالبحث ثم جاءني بالحل.. سنؤجل الولادة 3 أسابيع وسنملأ الفراغ الزمني بجرعة خامسة من الكيماوي. يعطي فها أحد العلاجين فقط دون الآخر الذي أثبتت الدراسات ان جرعات أضافيه منه قد تؤثر على القلب. وشرح لي كل الخيارات (المعقدة) الأخرى ولماذا استبعد كلا منها.. وأنهى كلامه قائلا :" لن تجدي هذه الجرعة الخامسة في أي كتاب.. انما فصلتها تفصيلا لتلائم وضعك الخاص".. كم يحتاج أطباؤنا لمثل هذه المرونة المبنية على الأبحاث لا على المزاج الشخصي. وألا يكونوا مجرد رجال آلية تطبق ما في الكتب حرفيا بغير النظر في خصوصية كل مريض واحتياجه..
احترامه الشديد لرأي المريض.. وقدرته على التفاوض معه واقناعه إذا لزم الأمر.. مثلا.. قبل العملية رفضت القيام باستئصال الغدد اللمفاويةlymph node dissection بسبب مضاعفاتها الشديدة (انتفاخ شديد في الذراع لا يزول بل يزيد مع السنين) كما رفضت عمل Sentinel lymph node وهو حقن ماده مشعه في الورم ليروا لأي الغدد اللمفاوية تسري المادة المشعة ثم يستأصلونها.. لكوني حاملا والاشعاع خطر على الجنين.. فلم يقل لي أن رفضي هذا جنون وأنه لم يقم أحد بهذا من قبل.. بل قال "ربما تكونين على حق وربما ليس هناك داع لاستئصال الغدد الليمفاوية في وقت تطور فيه العلاج الكيماوي بما قد يضمن الشفاء للمريض بغير استئصال جراحي ولكن ليس هناك حاليا أي أبحاث تثبت ذلك.. وستكونين الحالة الأولى التي تقرر ذلك.. ربما تثبت الأبحاث ذلك بعد 10 سنين لكن حاليا ليست لدينا هذه المعلومة فلا يمكننا المجازفة.. وأخذ يناقشني حتى وصلنا لحل وسط.. أن أعمل أشعة صوتيه على الغدد اللمفاوية فان وجدناها متضخمة فسأوافق على استئصالها .. وبهذا استطاع أن يقنعني من غير أن يفرض علي رأيه و من غير أن يدعني وقراري الخاطئ.
حين كان علي أن أقرر هل أستمر في الحمل أم لا.. كان صبره عجيبا.. وقد أخذ القرار مني أسابيع.. كل ما فعله هو أن شرح لي الواقع والايجابيات والسلبيات.. بل وأعطاني الابحاث التي وجدها في الموضوع وفتح لي باب الأمل قائلا "لو أردت الاستمرار في الحمل فأنا على يقين اننا سنصل لحلول تحافظ عليك وعلى الجنين" ثم تركني لأقرر ..لم يضغط.. ولم يستعجل.. ولم يحاول اقناعي برأيه الشخصي.. التزم الصمت وانتظر وكان ذلك منتهى الحكمة..
بعد ولادتي وأنا منومة في المستشفى.. فوجئت به يطرق الباب زائرا ويرفع صوته ضاحكا كعادته "د. البار. مبروك.. مبروك.." جاء ليرى المولودة ويهنئني بالسلامة ولم يكتفي بأن يكون طبيب أورام..
لم أكتب هذه المواقف الجميلة.. إلا سعيا لاستنساخ هذا السلوك الطبي المميز لدى أطبائنا الواعدين.. وأنا على يقين أنهم قادرون على الوصول لهذا المستوى الراقي.. وأكثر.."
#دمتم راقين أيها الأحبة ومشرقين في كل جوانب حياتكم