الفصل (٢٩)
أنا والموت
"من أصعب الحقائق التي يتعامل معها مريض السرطان.. هي حقيقة أن الموت أقرب إليه من أي وقت مضى...ربما.. أو هكذا نعتقد.. أن العد التنازلي في حياته "ربما" قد ابتدأ.. وعليه أن يستغل ما بقي له من أيام طالت أو قصرت بأفضل الاستغلال..
والحقيقة أن هذا هو الحال بالنسبة للجميع.. فكم من أصحاء معافين خرجوا من بيوتهم ولم يعودوا بسبب حادث سيارة...أو موت مفاجئ.. لكن مريض السرطان لديه "ميزة" هذا الإنذار المبكر.. ليستعد...فلا يؤخذ على حين غرة..
للناس في التعامل مع فكرة قرب الموت طرق مختلفة.. فالكثير يفضلون "التناسي" و"التجاهل" والعيش بالأمل.. والاستمتاع باليوم.. وترك التفكير بالغد.. والتفكير بهذه الطريقة...مريح حقاً.. وربما هو الصواب بالنسبة للبعض.. ولكني أشعر أنني إن ملت لهذا الاتجاه فسأضيع الهدف الذي من أجله حدث كل ما حدث.. بالنسبة لي.. من أعظم الحكم التي لأجلها نزلت هذه "العطية".. هو أن أدرك أن هناك ساعة موقوتة تعمل.. وأن وقتي على هذه الأرض ليس "اللانهاية"...وأني راحلة.. سواءً قرب السرطان رحيلي أم لا.. لكن علي أن أدرك أن مكاني ليس هنا...
أحاول قدر المستطاع أن أتقبل الموت كنهاية "سعيدة".. ألم يعطني الله إنذاراً ولم يأخذني وأنا في غفلة.. ولو أراد لانتهت حياتي في حادث سيارة وأنا أفكر بغيظ في مناوبة الليلة الماضية، وكيف ألقوا علي بكل العمل وذهبوا هم ليرتاحوا..
لكن الله شاء أن يخرجني من تلك الدوامة.. لاستعد.. وأتجهز.. فإن كانت النهاية بإذن الله وبكرمه وحده جنة ونعيماً.. فلماذا أخشى الموت.. ولماذا أعيش في قلق من نتيجة تحليل أو أشعة أو كلمة طبيب. إن كانت النهاية اجتماعاً جميلاً بالنبي والصحابة وكل الأتقياء الأنقياء الذين مروا على هذه الأرض.. ساعدني هذا التفكير كثيراً وأزال عني الكثير من الحزن والقلق.. فلم يعد لدى الأطباء ما يخوفونني به.. فالخبر الأسوأ.. ليس سيئاً على الإطلاق.. بل هو بداية لحياة أخرى سعيدة.. ولكن بقي جرح واحد لا أملك دمعي كلما فكرت في النهاية بسببه.. أن يعيش ابني ذو الثلاثة أعوام يتيماً.. أنظر إليه فأجد دمعي يسيل من حيث لا أدري.. وليس أقل معزةً منه عندي زوجي.. ولكني أعلم أنه سيغالب حزنه بعدي.. ويواصل حياته ويحاول النسيان...ووالدي.. فأعلم أن مخزون الإيمان لديهما سيكون لهما عوناً لمواصلة المشوار.. أما الصغير.. فما أقسى الحياة بغير أم.. أذكر أني كنت جالسة يوما وابني يلعب بالهاتف المحمول.. وأخرج فيديو لي معه ونحن نطعم الماعز والخراف ونلعب معهم في أحد المزارع.. لم أستطع أن أمنع نفسي من أن أقول لزوجي.. (الذي لا يحب النكد).. "لا تمسح صوري من جوالك"..
ماذا؟
" لا تمسحها.. أريد لابني أن يعرف أمه.. وأن لا ينساها".. لم أستطع أن أكمل وانفجرت باكية.. لاستمع لمحاضرة طويلة عن التفاؤل.. وحسن الظن بالله..
لماذا أحكي كل هذا الآن.. الدموع تخفي الأسطر فلا أستطيع الكتابة.. حسناً.. وهكذا.. فذكر الموت وتقبله.. مريح حقاً في وجود رب كريم.. وإن كان لا يخلو من "غصة" تختلف باختلافنا.."
#أسأل الله لي ولكم حسن الخاتمة. صوماً مقبولاً وإفطاراً شهياً