https://www.gulfupp.com/do.php?img=93971

قائمة المستخدمين المشار إليهم

صفحة 2 من 7 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 67

الموضوع: ▅ ▄ ▃ ▂ ▁ سلسلة رجال حول الرسول ..▁ ▂ ▃ ▄ ▅

  1. #11
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    عبدالله بن مسعود ( أول صادح بالقرآن )


    قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم, كان عبدالله بن مسعود قد آمن به, وأبح سادس ستة أسلموا واتبعوا الرسول, عليه وعليهم الصلاة والسلام..
    هو إذن من الأوائل المبكرين..
    ولقد تحدث عن أول لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
    " كنت غلاما يافعا, أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم, وأبوبكر فقالا: يا غلام,هل عندك من لبن تسقينا..؟؟
    فقلت: إني مؤتمن, ولست ساقيكما..
    فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل عندك من شاة حائل, لم ينز عليها الفحل..؟
    قلت: نعم..
    فأتيتهما بها, فاعتلفها النبي ومسح الضرع.. ثم أتاه أبو بكر بصخرة متقعرة, فاحتلب فيها, فشرب أبو بكر ثم شربت..ثم قال للضرع: أقلص, فقلص..
    فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد لك, فقلت: علمني من هذا القول.
    فقال: انك غلام معلم"...

    لقد انبهر عبدالله بن مسعود حين رأى عبدالله الصالح ورسوله الأمين يدعو ربه, ويمسح ضرعا لا عهد له باللبن بعد, فهذا هو يعطي من خير الله ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين..!!
    وما كان يدري يومها, أنه إنما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا, وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا, وتملؤها هدى ونور..
    بل ما كان يدري يومها, أنه وهو ذلك الغلام الفقير الضعيف الأجير الذي يرعى غنم عقبة بن معيط, سيكون إحدى هذه المعجزات يوم يخلق الإسلام منه منه مؤمنا بإيمانه كبرياء قريش, ويقهر جبروت ساداتها..
    فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة إلا مطرق الرأس حثيث الخطى.. نقول: يذهب بعد إسلامه إلى مجمع الأشراف عند الكعبة, وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم. ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله:
    ( الرحمن, علّم القرآن, خلق الإنسان, علّمه البيان, الشمس والقمر بحسبان, والنجم والشجر يسجدان).
    ثم يواصل قراءته. وزعماء قريش مشدوهون, لا يصدقون أعينهم التي ترى.. ولا آذانهم التي تسمع.. ولا يتصورون أن هذا الذي يتحدى بأسهم.. وكبريائهم..إنما هو أجير واحد منهم, وراعي غنم لشريف من شرفائهم.. عبدالله بن مسعود الفقير المغمور..!!
    ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير..
    انه الزبير رضي الله عنه يقول:
    " كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة, عبدالله بن مسعود رضي الله عنه, إذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
    والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط, فمن رجل يسمعهموه..؟؟
    فقال عبدالله بن مسعود:أنا..
    قالوا: إنا نخشاهم عليك, إنما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم إن أرادوه..
    قال: دعوني, فان الله سيمنعني..
    فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى, وقريش في أنديتها, فقام عند المقام ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم _رافعا صوته_ الرحمن.. علم القرآن, ثم استقبلهم يقرؤها..
    فتأملوه قائلين: ما يقول ابن أم عبد..؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد..
    فقاموا إليه وجعلوا يضربون وجهه, وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ..
    ثم عاد إلى أصحابه مصابا في وجهه وجسده, فقالوا له:
    هذا الذي خشينا عليك..
    فقال: ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن, ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا..
    قالوا: حسبك, فقد أسمعتهم ما يكرهون"..!!

    أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه.. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء, سيكونون إحدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله, ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار..!!
    ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب..
    ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة, وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات..!!

    لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة..
    بل ولا بعيدا عن الزحام..!!
    فلا مكان له بين الذين أوتوا بسطة من المال, ولا بين الذين أوتوا بسطة في الجسم, ولا بين الذين أوتوا حظا من الجاه..
    فهو من المال معدم.. وهو في الجسم ناحل, ضامر.. وهو في الجاه مغمور..
    ولكن الإسلام يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر..!
    ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه إرادة تقهر الجبارين, وتسهم في تغيير مصير التاريخ..!
    ويمنحه مكان انزوائه وضياعه, خلودا, وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ..!!
    ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له: " انك غلام معلّم" فقد علمه ربه, حتى صار فقيه الأمة, وعميد حفظة القرآن جميعا.
    يقول على نفسه:
    " أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة, لا ينازعني فيها أحد"..
    ولكأنما أراد الله مثوبته حين خاطر بحياته في سبيل إن يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته, والفهم السديد في إدراك معانيه..

    ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول:
    " تمسّكوا بعهد ابن أم عبد".
    ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته,ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن.
    يقول عليه السلام:
    " من أحب أن يسمع القرآن عصّا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد"..
    " من أحب أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل, فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"..!!
    ولطالما كان يطيب لرسول الله عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود..
    دعاه يوما الرسول, وقال له:
    " اقرأ عليّ يا عبد الله"..
    قال عبد الله:
    " أقرأ عليك, وعليك أنزل يا رسول الله"؟!
    فقال له الرسول:
    "إني أحب أن أسمعه من غيري"..
    فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل إلى قوله تعالى:
    (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا..
    يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض..
    ولا يكتمون الله حديثا)..
    فغلب البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفاضت عيناه بالدموع, وأشار بيده إلى ابن مسعود:
    أن" حسبك.. حسبك يا ابن مسعود"..

    وتحدث هو بنعمة الله فقال:
    " والله ما نزل من القرآن شيء إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل, وما أحد أعلم بكتاب الله مني, ولو أعلم أحدا تمتطى إليه الإبل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم"!!

    ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:
    " لقد ملئ فقها"..
    وقال أبو موسى الأشعري:
    " لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم"
    ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب.. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى.
    يقول عنه حذيفة:
    " ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه, ودلّه, وسمته من ابن مسعود...
    ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن أم عبد لأقربهم إلى الله زلفى"..!!
    واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه فقالوا له:
    "يا أمير المؤمنين, ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما, ولا أحسن مجالسة, ولا أشد ورعا من عبدالله بن مسعود..
    قال علي:
    نشدتكم الله, أهو صدق من قلوبكم..؟؟
    قالوا:
    نعم..
    قال:
    اللهم إني أشهدك.. اللهم إني أقول مثل ما قالوا أو أفضل..
    لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله, وحرّم حرامه..فقيه في الدين, عالم بالسنة"..!

    وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يتحدثون عن عبدالله بن مسعود فيقولون:
    " إن كان ليؤذن له اذا حججنا, ويشهد إذا غبنا"..
    وهم يريدون بهذا, أن عبد الله رضي الله عنه كان يظفر من الرسول صلى الله عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه, فيدخل عليه بيته أكثر مما يدخل غيره ويجالسه أكثر مما يجالس سواه. وكان دون غيره من الصّحب موضع سرّه ونجواه, حتى كان يلقب بـصاحب السواد أي صاحب السر..

    يقول أبو موسى الشعري رضي الله عنه:
    "لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام, وما أرى إلا ابن مسعود من أهله"..
    ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبّه حبا عظيما, وكان يحب فيه ورعه وفطنته, وعظمة نفسه.. حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه:
    " لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى المسلمين, لأمّرت ابن أم عبد"..
    وقد مرّت بنا من قبل, وصية الرسول لأصحابه:
    " تمسكوا بعهد ابن أم عبد"...

    وهذا الحب, وهذه الثقة أهلاه لأن يكون شديد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:" إذنك عليّ أن ترفع الحجاب"..
    فكان هذا إيذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلام في أي وقت يشاء من ليل أو نهار...
    وهكذا قال عنه أصحابه:
    " كان يؤذن له اذا حججنا, ويشهد اذا غبنا"..

    ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو, من شأنها أن ترفع الكلفة, فان ابن مسعود لم يزدد بها إلا خشوعا, وإجلالا, وأدبا..
    ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده, مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته...

    فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلام, نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول... تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الاضطراب والقلق, خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف..!!

    ولنستمع لإخوانه يصفون هذه الظاهرة..
    يقول عمرو بن ميمون:
    " اختلفت إلى عبدالله بن مسعود سنة, ما سمعه يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, إلا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه: قال رسول الله, فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته, ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول"..!!
    ويقول علقمة بن قيس:
    " كان عبدالله بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا, فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة.. فنظرت إليه وهو معتمد على عصا, فإذا عصاه ترتجف, وتتزعزع"..!!
    ويحدثنا مسروق عن عبدالله:
    " حدّث ابن مسعود يوما حديثا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم أرعد وأرعدت ثيابه.. ثم قال:أو نحو ذا.. أو شبه ذا"..!!
    إلى هذا المدى العظيم بلغ إجلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبلغ توقيره إياه, وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون أمارة تقاه..!!
    فالرجل الذي عاصره رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من غيره, كان إدراكه لجلال هذا الرسول العظيم إدراكا سديدا.. ومن ثمّ كان أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته, ومع ذكراه في مماته, أدبا فريدا..!!

    لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر, ولا في حضر.. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها.. وكان له يوم بدر شأن مذكور مع أب جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل.. وعرف خلفاء الرسول وأصحابه له قدره.. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة. وقال لأهلها حين أرسله إليهم:
    " إني والله الذي لا اله إلا هو, قد آثرتكم به على نفسي, فخذوا منه وتعلموا".
    ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله, ولا أحد مثله..
    وإجماع أهل الكوفة على حب إنسان, أمر يشبه المعجزات..
    ذلك أنهم أهل تمرّد ثورة, لا يصبرون على طعام واحد..!! ولا يطيقون الهدوء والسلام..

    ولقد بلغ من حبهم إياه أن أطاحوا به حين أراد الخليفة عثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له:" أقم معنا ولا تخرج, ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه منه"..
    ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه, إذ قال لهم:
    " إن له عليّ الطاعة, وإنها ستكون أمور وفتن, ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها"..!!
    إن هذا الموقف الجليل الورع يصلنا بموقف ابن مسعود من الخليفة عثمان.. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى حجب عن عبدالله راتبه ومعاشه من بيت الأمل,, ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه كلمة سوء واحدة..
    بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل إلى ثورة..
    وحين ترامى إلى مسمعه محاولات اغتيال عثمان, قال كلمته المأثورة:
    " لئن قتلوه, لا يستخلفون بعده مثله".
    ويقول بعض أصحاب ابن مسعود:
    " ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط"..

    ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه التقوى.
    وكان يملك القدرة على رؤية الأعماق, والتعبير عنها في أناقة وسداد..
    لنستمع له مثلا وهو يلخص حياة عمر العظيمة في تركيز باهر فيقول:
    " كان إسلامه فتحا.. وكانت هجرته نصرا.. وكانت أمارته رحمة..".
    ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول:
    " إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار.. نور السموات والأرض من نور وجهه"..!!
    ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع المستوى الأدبي لصاحبه, فيقول:" إني لأمقت الرجل, إذ أراه فارغا.. ليس في شيء من عمل الدنيا, ولا عمل الآخرة"..
    ومن كلماته الجامعة:
    " خير الغنى غنى النفس , وخير الزاد التقوى, وشر العمى عمى القلب, وأعظم الخطايا الكذب, وشرّ المكاسب الربا, وشرّ المأكل مال اليتيم, ومن يعف الله عنه, ومن يغفر الله له"..

    هذا هو عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة, عاشها صاحبها في سبيل الله, ورسوله ودينه..
    هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور..!!
    نحيف, قصير, يكاد الجالس يوازيه طولا وهو قائم..
    له ساقان ناحلتان دقيقتان.. صعد بهما يوما أعلى شجرة يجتني منها أراكا لرسول اله صلى الله عليه وسلم.. فرأى أصحاب النبي دقتهما فضحكوا, فقال عليه الصلاة والسلام:
    " تضحكون من ساقيْ ابن مسعود, لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد"..!!
    أجل هذا هو الفقير الأجير, الناحل الوهنان.. الذي جعل منه إيمانه ويقينه إماما من أئمة الخير والهدى والنور..
    ولقد حظي من توفيق الله ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الأوائل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.. أولئك الذين بشروا وهم على ظهر الأرض برضوان الله وجنّته..

    وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام, مع خلفائه من بعده..
    وشهد أعظم إمبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الإسلام ومشيئته..

    ورأى المناصب تبحث عن شاغليها من المسلمين, والأموال الوفيرة تتدحرج بين أيديهم, فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله عليه ورسوله.. ولا صرفه صارف عن إخباته وتواضعه ومنهج حياته..

    ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين إليها فيرددها, ويتغنى بها, ويتمنى لو أنه أدركها..

    ولنصغ إليه يحدثنا بكلماته عنها:
    " قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك.. فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر إليها, فإذا رسول الله, وأبوبكر وعمر, وإذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات وإذا هم قد حفروا له, ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته, وأبو بكر وعمر يدليانه إليه, والرسول يقول: أدنيا إلي أخاكما.. فدلياه إليه, فلما هيأه للحده قال: اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه.. فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة"..!!
    تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه.
    وهي لا تمت بسبب إلى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء, ومنصب وجاه.ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب, عظيم النفس, وثيق اليقين.. رجل هداه الله, وربّاه الرسول, وقاده القرآن..!!

    •   Alt 

       

  2. #12
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    المقداد بن عمرو ( أول فرسان الإسلام )

    تحدث عنه أصحابه ورفاقه فقالوا:
    " أول من عدا به فرسه في سبيل الله, المقداد بن الأسود..
    والمقداد بن الأسود, هو بطلنا هذا المقداد بن عمرو كان قد حالف في الجاهلية الأسود بن عبد يغوث فتبناه, فصار يدعى المقداد بن الأسود, حتى إذا نزلت الآية الكريمة التي تنسخ التبني, نسب لأبيه عمرو بن سعد..
    والمقداد من المبكّرين بالإسلام, وسابع سبعة جاهروا بإسلامهم وأعلنوه, حاملا نصيبه من أذى قريش ونقمتها, فيه شجاعة الرجال وغبطة الحواريين..!!
    ولسوف يظل موقفه يوم بدر لوحة رائعة كل من رآه لو أنه كان صاحب هذا الموقف العظيم..
    يقول عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله:
    " لقد شهدت من المقداد مشهدا, لأن أكون صاحبه, أحبّ إليّ مما في الأرض جميعا".
    في ذلك اليوم الذي بدأ عصيبا.ز حيث أقبلت قريش في بأسها الشديد وإصرارها العنيد, وخيلائها وكبريائها..
    في ذلك اليوم.. والمسلمون قلة, لم يمتحنوا من قبل في قتال من أجل الإسلام, فهذه أول غزوة لهم يخوضونها..
    ووقف الرسول يعج إيمان الذين معه, ويبلوا استعدادهم لملاقاة الجيش الزاحف عليهم في مشاته وفرسانه..
    وراح يشاورهم في الأمر, وأصحاب الرسول يعلمون أنه حين يطلب المشورة والرأي, فانه يفعل ذلك حقا, وأنه يطلب من كل واحد حقيقة اقتناعه وحقيقة رأيه, فان قال قائلهم رأيا يغاير رأي الجماعة كلها, ويخالفها فلا حرج عليه ولا تثريب..

    وخاف المقداد أن يكون بين المسلمين من له بشأن المعركة تحفظات... وقبل أن يسبقه أحد بالحديث همّ هو بالسبق ليصوغ بكلماته القاطعة شعار المعركة, ويسهم في تشكيل ضميرها.
    ولكنه قبل أن يحرك شفتيه, كان أبو بكر الصديق قد شرع يتكلم فاطمأن المقداد كثيرا.. وقال أبو بكر فأحسن, وتلاه عمر بن الخطاب فقل وأحسن..
    ثم تقدم المقداد وقال:
    " يا رسول الله..
    امض لما أراك الله, فنحن معك..
    والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى
    اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون..
    بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون..!!
    والذي بعثك بالحق, لو سرت بنا إلى برك العماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك وبين يديك ومن خلفك حتى يفتح الله لك".. انطلقت الكلمات كالرصاص المقذوف.. وتهلل وجه رسول الله وأشرق فمه عن دعوة صالحة دعاها للمقداد.. وسرت في الحشد الصالح المؤمن حماسة الكلمات الفاضلة التي أطلقها المقداد بن عمرو والتي حددت بقوتها وإقناعها نوع القول لمن أراد قولا.. وطراز الحديث لمن يريد حديثا..!!

    أجل لقد بلغت كلمات المقداد غايتها من أفئدة المؤمنين, فقام سعد بن معاذ زعيم الأنصار, وقال:
    " يا رسول الله..
    لقد آمنا بك وصدّقناك, وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحق.. وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا, فامض يا رسول الله لما أردت, فنحن معك.. والذي بعثك بالحق.. لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك, ما تخلف منا رجل واحد, وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا..
    إنا لصبر في الحرب, صدق في اللقاء.. ولعل الله يريك منا ما تقر عينك.. فسر على بركة الله"..
    وامتلأ قلب الرسول بشرا..
    وقال لأصحابه:" سيروا وأبشروا"..
    والتقى الجمعان..
    وكان من فرسان المسلمين يومئذ ثلاثة لا غير: المقداد بن عمرو, ومرثد بن أبي مرثد, والزبير بن العوّام, بينما كان بقية المجاهدين مشاة, أو راكبين إبلا..

    إن كلمات المقداد التي مرّت بنا من قبل, لا تصور شجاعته فحسب, بل تصور لنا حكمته الراجحة, وتفكيره العميق..
    وكذلك كان المقداد..
    كان حكيما أريبا, ولم تكن حمته تعبّر عن نفسها في مجرّد كلمات, بل هي تعبّر عن نفسها في مبادئ نافذة, وسلوك قويم مطرّد. وكانت تجاربه قوتا لحكته وريا لفطنته..

    ولاه الرسول على إحدى الولايات يوما, فلما رجع سأله النبي:
    " كيف وجدت الإمارة"..؟؟
    فأجاب في صدق عظيم:
    " لقد جعلتني أنظر إلى نفسي كما لو كنت فوق الناس, وهم جميعا دوني..
    والذي بعثك بالحق, لا أتأمرّن على اثنين بعد اليوم, أبدا"..
    وإذا لم تكن هذه الحكمة فماذا تكون..؟
    وإذا لم يكن هذا هو الحكيم فمن يكون..؟
    رجل لا يخدع عن نفسه, ولا عن ضعفه..
    يلي الإمارة, فيغشى نفسه الزهو والصلف, ويكتشف في نفسه هذا الضعف, فيقسم ليجنّبها مظانه, وليرفض الإمارة بعد تلك التجربة ويتحاماها.. ثم يبر بقسمه فلا يكون أميرا بعد ذلك أبدا..!!
    لقد كان دائب التغني بحديث سمعه من رسول الله.. هو ذا:
    " إن السعيد لمن جنّب الفتن"..
    وإذا كان قد رأى في الإمارة زهوا يفتنه, أو يكاد يفتنه, فان سعادته إذن في تجنبها..
    ومن مظاهر حكمته, طول أناته في الحكم على الرجال..
    وهذه أيضا تعلمها من رسول الله.. فقد علمهم عليه السلام أن قلب ابن آدم أسرع تقلبا من القدر حين تغلي..

    وكان المقداد يرجئ حكمه الأخير على الناس إلى لحظة الموت, ليتأكد أن هذا الذي يريد أن يصدر عليه حكمه لن يتغير ولن يطرأ على حياته جديد.. وأي تغيّر, أو أي جديد بعد الموت..؟؟
    وتتألق حكمته في حنكة بالغة خلال هذا الحوار الذي ينقله إلينا أحد أصحابه وجلسائه, يقول:

    " جلسنا إلى المقداد يوما فمرّ به رجل..
    فقال مخاطبا المقداد: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
    والله لوددنا أن رأينا ما رأيت, وشهدنا ما شهدت فأقبل عليه المقداد وقال:
    ما يحمل أحدكم على أن يتمنى مشهدا غيّبه الله عنه, لا يدري لو شهده كيف كان يصير فيه؟؟ والله, لقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام كبّهم الله عز وجل على مناخرهم في جهنم. أولا تحمدون الله الذي جنّبكم مثلا بلائهم, وأخرجكم مؤمنين بربكم ونبيكم"..

    حكمة وأية حكمة..!!
    إنك لا تلتقي بمؤمن يحب الله ورسوله, إلا وتجده يتمنى لو أنه عاش أيام الرسول ورآه..!
    ولكن بصيرة المقداد الحاذق الحكيم تكشف البعد المفقود في هذه الأمنية..
    ألم يكن من المحتمل لهذا الذي يتمنى لو أنه عاش تلك الأيام.. أن يكون من أصحاب الجحيم..
    ألم يكون من المحتمل أن يكفر مع الكافرين.
    وأليس من الخير إذن أن يحمد الله الذي رزقه الحياة في عصور استقرّ فيها الإسلام, فأخذه صفوا عفوا..
    هذه نظرة المقداد, تتألق حكمة وفطنة.. وفي كل مواقفه, وتجاربه, وكلماته, كان الأريب الحكيم..

    وكان حب المقداد للإسلام عظيما..
    وكان إلى جانب ذلك, واعيا حكيما..
    والحب حين يكون عظيما وحكيما, فانه يجعل من صاحبه إنسانا عليّا, لا يجد غبطة هذا الحب في ذاته.. بل في مسؤولياته..
    والمقداد بن عمرو من هذا الطراز..
    فحبه الرسول. ملأ قلبه وشعوره بمسؤولياته عن سلامة الرسول, ولم يكن تسمع في المدينة فزعة, إلا ويكون المقداد في مثل لمح البصر واقفا على باب رسول الله ممتطيا صهوة فرسه, ممتشقا مهنّده وحسامه..!!
    وحبه للإسلام, ملأ قلبه بمسؤولياته عن حماية الإسلام.. ليس فقط من كيد أعدائه.. بل ومن خطأ أصدقائه..

    خرج يوما في سريّة, تمكن العدو فيها من حصارهم, فأصدر أمير السرية أمره بألا يرعى أحد دابته.. ولكن أحد المسلمين لم يحط بالأمر خبرا, فخالفه, فتلقى من الأمير عقوبة أكثر مما يستحق, لعله لا يستحقها على الإطلاق..
    فمر المقداد بالرجل يبكي ويصيح, فسأله, فأنبأه ما حدث
    فأخذ المقداد بيمينه, ومضيا صوب الأمير, وراح المقداد يناقشه حتى كشف له خطأه وقال له:
    " والآن أقده من نفسك..
    ومكّنه من القصاص"..!!
    وأذعن الأمير.. بيد أن الجندي عفا وصفح, وانتشى المقداد بعظمة الموقف, وبعظمة الدين الذي أفاء عليهم هذه العزة, فراح يقول وكأنه يغني:
    " لأموتنّ, والإسلام عزيز"..!!

    أجل تلك كانت أمنيته, أن يموت والإسلام عزيز.. ولقد ثابر مع المثابرين على تحقيق هذه الأمنية مثابرة باهرة جعلته أهلا لأن يقول له الرسول عليه الصلاة والسلام:
    "إن الله أمرني بحبك..
    وأنبأني أنه يحبك"...

  3. #13
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    أبيّ بن كعب ( ليهنك العلم, أبا المنذر )

    سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم:
    " يا أبا المنذر..؟
    أي آية من كتاب الله أعظم..؟؟
    فأجاب قائلا:
    الله ورسوله أعلم..
    وأعاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سؤاله:
    أبا المنذر..؟؟
    أيّ أية من كتاب الله أعظم..؟؟
    وأجاب أبيّ:
    الله لا اله إلا هو الحيّ القيّوم..
    فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره بيده, وقال له والغبطة تتألق على محيّاه:
    ليهنك العلم أبا المنذر"...

    إن أبا المنذر الذي هنأه الرسول الكريم بما أنعم الله عليه من علم وفهم هو أبيّ بن كعب الصحابي الجليل..
    هو أنصاري من الخزرج, شهد العقبة, وبدرا, وبقية المشاهد..
    وبلغ من المسلمين الأوائل منزلة رفيعة, ومكانا عاليا, حتى لقد قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما:
    " أبيّ سيّد المسلمين"..
    وكان أبيّ بن كعب في مقدمة الذين يكتبون الوحي, ويكتبون الرسائل..
    وكان في حفظه القرآن الكريم, وترتيله إياه, وفهمه آياته,من المتفوقين..
    قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما:
    " يا أبيّ بن كعب..
    إني أمرت أن أعرض عليك القرآن"..
    وأبيّ يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يتلقى أوامره من الوحي..
    هنالك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشوة غامرة:
    " يا رسول الله بأبي أنت وأمي.. وهل ذكرت لك باسمي"..؟؟
    فأجاب الرسول:
    " نعم..
    باسمك, ونسبك, في الملأ الأعلى"..!!
    وان مسلما يبلغ من قلب النبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة لهو مسلم عظيم جد عظيم..
    وطوال سنوات الصحبة, وأبيّ بن كعب قريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهل من معينه العذب المعطاء..
    وبعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى, ظلّ أبيّ على عهده الوثيق.. في عبادته, وفي قوة دينه, وخلقه..
    وكان دائما نذيرا في قومه..
    يذكرهم بأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وماكانوا عليه من عهد, وسلوك وزهد..
    ومن كلماته الباهرة التي كان يهتف بها في أصحابه:
    " لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوهنا واحدة..
    فلما فارقنا, اختلفت وجوهنا يمينا وشمالا"..

    ولقد ظل مستمسكا بالتقوى, معتصما بالزهد, فلم تستطع الدنيا أن تفتنه أو تخدعه..
    ذلك أنه كان يرى حقيقتها في نهايتها..
    فمهما يعيش المرء, ومهما يتقلب في المناعم والطيبات, فانه ملاق يوما يتحول فيه كل ذلك إلى هباء, ولا يجد بين يديه إلا ما عمل من خير, أو ما عمل من سوء..
    وعن عمل الدنيا يتحدّث أبيّ فيقول:
    " إن طعام ني آدم, قد ضرب للدنيا مثلا..
    فان ملّحه, وقذحه, فانظر إلى ماذا يصير"..؟؟

    وكان أبيّ إذا تحدّث للناس استشرفته الأعناق والأسماع في شوق وإصغاء..
    ذلك أنه من الذين لم يخافوا في الله أحدا.. ولم يطلبوا من الدنيا غرضا..
    وحين اتسعت بلاد الإسلام, ورأى المسلمين يجاملون ولاتهم في غير حق, وقف يرسل كلماته المنذرة:
    " هلكوا ورب الكعبة..
    هلكوا وأهلكوا..
    أما إني لا آسى عليهم, ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين".

    وكان على كثرة ورعه وتقاه, يبكي كلما ذكر الله واليوم الآخر.
    وكانت آيات القرآن الكريم وهو يرتلها, أو يسمعها, تهزه وتهز كل كيانه..
    وعلى ئأن آية من تلك الآيات الكريمة, كان إذا سمعها أو تلاها تغشاه من الأسى ما لا يوصف..
    تلك هي:
    ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم, أو من تحت أرجلكم, أو يلبسكم شيعا.. ويذيق بعضكم بأس بعض)..
    كان أكثر ما يخشاه أبيّ على الأمة المسلمة أن يأتي عليها اليوم الذي يصير بأس أبنائها بينهم شديدا..
    وكان يسأل الله العافية دوما.. ولقد أدركها بفضل من الله ونعمة..
    ولقي ربه مؤمنا, وآمنا ومثابا..

  4. #14
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    عمران بن حصين ( شبيه الملائكة )

    عام خيبر, أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعا..
    ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول أصبحت يده اليمنى موضع تكريم كبير, فآلى على نفسه ألا يستخدمها إلا في كل عمل طيّب, وكريم..
    هذه الظاهرة تنبئ عما يتمتع به صاحبها من حسّ دقيق.

    وعمران بن حصين رضي الله عنه صورة رضيّة من صور الصدق, والزهد, والورع, والتفاني وحب الله وطاعته...
    وإن معه من توفيق الله ونعمة الهدى لشيئا كثيرا, ومع ذلك فهو لا يفتأ يبكي, ويبكي, ويقول:
    " يا ليتني كنت رمادا, تذروه الرياح"..!!
    ذلك أن هؤلاء الرجال لم يكونوا يخافون الله بسبب ما يدركون من ذنب, فقلما كانت لهم بعد إسلامهم ذنوب..
    إنما كانوا يخافونه ويخشونه بقدر إدراكهم لعظمته وجلاله,وبقدر إدراكهم لحقيقة عجزهم عن شكره وعبادته, فمهما يضرعوا, ويركعوا, ومهما يسجدوا, ويعبدوا..
    ولقد سأل أصحاب الرسول يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
    " يا رسول الله, مالنا إذا كنا عندك رقت قلوبنا, وزهدنا دنيانا, وكأننا نرى الآخرة رأي العين.. حتى إذا خرجنا من عندك, ولقينا أهلنا, وأولادنا, ودنيانا, أنكرنا أنفسنا..؟؟"
    فأجابهم عليه السلام:
    " والذي نفسي بيده, لو تدومون على حالكم عندي, لصافحتكم الملائكة عيانا, ولكن ساعة.. وساعة.
    وسمع عمران بن حصين هذا الحديث. فاشتعلت أشواقه.. وكأنما آلى على نفسه ألا يقعد دون تلك الغاية الجليلة ولو كلفته حياته, وكأنما لم تقنع همّته بأن يحيا حياته ساعة.. وساعة.. فأراد أن تكون كلها ساعة واحدة موصولة النجوى والتبتل لله رب العالمين..!!

    وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أرسله الخليفة إلى البصرة ليفقه أهلها ويعلمهم.. وفي البصرة حطّ رحاله, وأقبل عليه أهلها مذ عرفوه يتبركون به, ويستضيئون بتقواه.
    قال الحسن البصري, وابن سيرين:
    " ما قدم البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بفضل عمران بن حصين"
    كان عمران يرفض أن يشغله عن الله وعبادته شاغل, استغرق في العبادة, واستوعبته العبادة حتى صار كأنه لا ينتمي إلى عالم الدنيا التي يعيش فوق أرضها وبين ناسها..
    أجل..
    صار كأنه ملك يحيا بين الملائكة, يحادثونه ويحادثهم.. ويصافحونه ويصافحهم..

    ولما وقع النزاع الكبير بين المسلمين, بين فريق علي وفريق معاوية, لم يقف عمران موقف الحيدة وحسب, بل راح يرفع صوته بين الناس داعيا إياهم أن يكفوا عن الاشتراك في تلك الحرب, حاضنا قضية الإسلام خير محتضن.. وراح يقول للناس:
    " لأن أرعى أعنزا حضنيات في رأس جبل حتى يدركني الموت, أحبّ إلي من أن أرمي في أحد الفريقين بسهم, أخطأ أم أصاب"..
    وكان يوصي من يلقاه من المسلمين قائلا:
    " الزم مسجدك..
    فإن دخل عليك, فالزم بيتك..
    فان دخل عليك بيتك من يريد نفسك ومالك فقاتله"..

    وحقق إيمان عمران بن حصين أعظم نجاح, حين أصابه مرض موجع لبث معه ثلاثين عاما, ما ضجر منه ولا قال: أفّ..
    بل كان مثابرا على عبادته قائما, وقاعدا وراقدا..
    وكان إذا هوّن عليه إخوانه وعوّاده أمر علته بكلمات مشجعة, ابتسم لها وقال:
    " إن أحبّ الأشياء إلى نفسي, أحبها إلى الله"..!!
    وكانت وصيته لأهله وإخوانه حين أدركه الموت:
    " إذا رجعتم من دفني, فانحروا وأطعموا"..

    أجل لينحروا ويطعموا, فموت مؤمن مثل عمران بن حصين ليس موتا, إنما هو حفل زفاف عظيم, ومجيد, تزف فيه روح عالية راضية إلى جنّة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين...


  5. #15
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    سعد بن عبادة ( حامل راية الأنصار )

    لا يذكر سعد بن معاذ إلا ويذكر معه سعد بن عبادة..
    فالاثنان زعيما أهل المدينة..
    سعد بن معاذ زعيم الأوس..
    وسعد بن عبادة زعيم الخزرج..
    وكلاهما أسلم مبكرا, وشهد بيعة العقبة, وعاش إلى جوار رسول الله صلى اله عليه وسلم جنديا مطيعا, ومؤمنا صدوقا..
    ولعلّ سعد بن عبادة ينفرد بين الأنصار جميعا بأنه حمل نصيبه من تعذيب قريش الذي كانت تنزله بالمسلمين في مكة..!!
    لقد كان طبيعيا أن تنال قريش بعذابها أولئك الذين يعيشون بين ظهرانيها, ويقطنون مكة..
    أما أن يتعرض لهذا العذاب رجل من المدينة.. وهو ليس بمجرد رجل.. بل زعيم كبير من زعمائها وساداتها, فتلك ميّزة قدّر لابن عبادة أن ينفرد بها..
    وذلك بعد أن تمت بيعة العقبة سرا, وأصبح الأنصار يتهيئون للسفر, علمت قريش بما كان من مبايعة الأنصار واتفاقهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة إلى المدينة حيث يقفون معه ومن ورائه ضد قوى الشرك والظلام..
    وجنّ جنون قريش فراحت تطارد الركب المسافر حتى أدركت من رجاله سعد بن عبادة فأخذه المشركون, وربطوا يديه إلى عنقه بشراك رحله وعادوا به إلى مكة, حيث احتشدوا حوله يضربونه وينزلون به ما شاءوا من العذاب..!!
    أسعد بن عبادة يصنع به هذا..!؟
    زعيم المدينة, الذي طالما أجار مستجيرهم, وحمى تجارتهم, وأكرم وفادتهم حين يذهب منهم إلى المدينة ذاهب..؟؟
    لقد كان الذين اعتقلوه, والذين ضربوه لا يعرفونه ولا يعرفون مكانته في قومه..
    ولكن, أتراهم كانوا تاركيه لو عرفوه..؟
    ألم ينالوا بتعذيبهم سادة مكة الذين أسلموا..؟؟
    إن قريشا في تلك الأيام كانت مجنونة, ترى كل مقدرات جاهليتها تتهيأ للسقوط تحت معاول الحق, فلم تعرف سوى إشفاء أحقادها نهجا وسبيلا..

    أحاط المشركون بسعد بن عبادة ضاربين ومعتدين..
    ولندع سعدا يحكي لنا بقيّة النبأ:
    ".. فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع عليّ نفر من قريش, فيهم رجل وضيء, أبيض, شعشاع من الرجال..
    فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير, فعند هذا.
    فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة..
    فقلت في نفسي: لا والله, ما عندهم بعد هذا من خير..!!
    فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوى إليّ رجل ممن كان معهم فقال: ويحك, أما بينك وبين أحد من قريش جوار..؟
    قلت: بلى.. كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة, وأمنعهم ممن يريد ظلمهم ببلادي, وكنت أجير للحارث بن حرب بن أميّة..
    قال الرجل: فاهتف باسم الرجلين, واذكر ما بينك وبينهما من جوار, ففعلت..
    وخرج الرجل إليهما, فأنبأهما أن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح, وهو يهتف باسميهما, ويذكر أن بينه وبينهما جوارا..
    فسألاه عن اسمي.. فقال سعد بن عبادة..
    فقالا: صدقا والله, وجاءا فخلصاني من أيديهم".

    غادر سعد بعد هذا العدوان الذي صادفه في أوانه ليعلم كم تتسلح قريش بالجريمة ضدّ قوم عزل, يدعون إلى الخير, والحق والسلام..
    ولقد شحذ هذا العدوان, وقرر أن يتفانى في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم, والأصحاب والإسلام..

    ويهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.. ويهاجر قبله أصحابه..
    وهناك سخّر سعد أمواله لخدمة المهاجرين..
    كان سعد جوادا بالفطرة وبالوراثة..
    فهو ابن عبادة بن دليم بن حارثة الذي كانت شهرة جوده في الجاهلية أوسع من كل شهرة..
    ولقد صار جود سعد في الإسلام آية من آيات إيمانه القوي الوثيق..
    قال الرواة عن جوده هذا:
    " كانت جفنة سعد تدور مع النبي صلى اله عليه وسلم في بيوته جميعا"..
    وقالوا:
    " كان الرجل من الأنصار ينطلق إلى داره, بالواحد من المهاجرين, أو بالاثنين, أو بالثلاثة.
    وكان سعد بن عبادة ينطلق بالثمانين"..!!
    من أجل هذا, كان سعد يسأل ربه دائما المزيد من خره ورزقه..
    وكان يقول:
    " اللهم إنه لا يصلحني القليل, ولا أصلح عليه"..!!
    وإنه من أجل هذا كان خليقا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له:
    " اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة"..

    ولم يضع سعد ثروته وحدها في خدمة الإسلام الحنيف, بل وضع قوته ومهارته..
    فقد كان يجيد الرمي إجادة فائقة.. وفي غزواته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فدائيته حازمة وحاسمة.
    يقول ابن عباس رضي الله عنهما:
    " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المواطن كلها رايتان..
    مع علي ابن أبي طالب راية المهاجرين..
    ومع سعد بن عبادة, راية الأنصار"..

    ويبدو أن الشدّة كانت طابع هذه الشخصية القوية..
    فهو شديد في الحق..
    وشديد في تشبثه بما يرى لنفسه من حق..
    وإذا اقتنع بأمر نهض لإعلانه في صراحة لا تعرف المداراة, وتصميم لا يعرف المسايرة..
    وهذه الشدة, أوهذا التطرّف, هو الذي دفع زعيم الأنصار الكبير إلى مواقف كانت عليه أكثر مما كانت له..

    فيوم فتح مكة, جعله الرسول صلى الله عليه وسلم أميرا على فيلق من جيوش المسلمين..
    ولم يكد يشارف أبواب البلد الحرام حتى صاح:
    " اليوم يوم الملحمة..
    اليوم تستحل الحرمة"..
    وسمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسارع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:
    " يا رسول الله..
    اسمع ما قال سعد بن عبادة..
    ما نأمن أن يكون له في قريش صولة"..
    فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليّا أن يدركه, ويأخذ الراية منه, ويتأمّر مكانه..
    إن سعدا حين رأى مكة مذعنة مستسلمة لجيش الإسلام الفاتح.. تذكّر كل صور العذاب الذي صبّته على المؤمنين, وعليه هو ذات يوم..
    وتذكر الحروب التي سنتها على قوم ودعاة.. كل ذنبهم أنهم يقولون: لا اله إلا الله, فدفعته شدّته إلى الشماتة بقريش وتوعدها يوم الفتح العظيم..

    وهذه الشدة نفسها,أو قل هذا التطرّف الذي كان يشكل جزءا من طبيعة سعد هو الذي جعله يقف يوم السقيفة موقفه المعروف..
    فعلى أثر وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام, التف حوله جماعة من الأنصار في سقيفة بني ساعدة منادين بأن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار..
    كانت خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفا لذويه في الدنيا والآخرة..
    ومن ثم أراد هذا الفريق من الأنصار أن ينالوه ويظفروا به..
    ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف أبا بكر على الصلاة أثناء مرضه, وفهم الصحابة من هذا الاستخلاف الذي كان مؤيدا بمظاهر أخرى أضفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر.. ثاني اثنين إذ هما في الغار..
    نقول: فهموا أن أبا بكر أحق بالخلافة من سواه..
    وهكذا تزعّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الرأي واستمسك به في حين تزعم سعد بن عبادة رضي الله عنه, الرأي الآخر واستمسك به, مما جعل كثيرين من الصحابة رضي الله عنهم يأخذون عليه هذا الموقف الذي كان موضع رفضهم واستنكارهم..

    ولكن سعد بن عبادة بموقفه هذا, كان يستجيب في صدق لطبيعته وسجاياه..
    فهو كما ذكرنا شديد التثبت باقتناعه, وممعن في الإصرار على صراحته ووضوحه..
    ويدلنا على هذه السجيّة فيه, موقفه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد غزوة حنين..
    فحين انتهى المسلمون من تلك الغزوة ظافرين, راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزع غنائمها على المسلمين.. واهتم يومئذ اهتماما خاصا بالمؤلفة قلوبهم, وهم أولئك الأشراف الذين دخلوا الإسلام من قريب, ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يساعدهم على أنفسهم بهذا التآلف, كما أعطى ذوي الحاجة من المقاتلين.
    وأما أولو الإسلام المكين, فقد وكلهم إلى إسلامهم, ولم يعطهم من غنائم هذه الغزوة شيئا..
    كان عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, مجرّد عطائه, شرفا يحرص عليه جميع الناس..
    وكانت غنائم الحرب قد أصبحت تشكّل دخلا هاما تقوم عليه معايش المسلمين..
    وهكذا تساءل الأنصار في مرارة: لماذا لم يعطهم رسول الله حظهم من الفيء والغنيمة..؟؟
    وقال شاعرهم حسان بن ثابت:
    وأت الرسول فقل يا خير مؤتمن للمؤمنين إذا ما عدّد البشر
    علام تدعى سليم, وهي نازحة قدّام قوم, هموا آووا وهم نصروا
    سمّاهم الله الأنصار بنصرهم دين الهدى, وعوان الحرب تستعير
    وسارعوا في سبيل الله واعترفوا للنائبات, وما جاموا وما ضجروا

    ففي هذه الأبيات عبّر شاعر الرسول والأنصار عن الحرج الذي أحسّه الأنصار, إذ أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة, ولم يعطهم شيئا.
    ورأى زعيم الأنصار سعد بن عبادة.. وسمع قومه يتهامس بعضهم بهذا الأمر, فلم يرضه هذا الموقف, واستجاب لطبيعته الواضحة المسفرة الصريحة, وذهب من فوره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
    " يا رسول الله..
    إن هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم, لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت..
    قسمت في قومك, وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب, ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء"..
    هكذا قال الرجل الواضح كل ما في نفسه, وكل ما في أنفس قومه.. وأعطى الرسول صورة أمينة عن الموقف..
    وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    " وأين أنت من ذلك يا سعد"..؟؟
    أي إذا كان هذا رأي قومك, فما رأيك أنت..؟؟
    فأجاب سعد بنفس الصراحة قائلا:
    " ما أنا إلا من قومي"..
    هنالك قال له النبي:" إذن فاجمع لي قومك"..
    ولا بدّ لنا من أن نتابع القصة إلى نهايتها, فان لها روعة لا تقاوم..!
    جمع سعد قومه من الأنصار..
    وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتملّى وجوههم الآسية. وابتسم ابتسامة متألقة بعرفان جميلهم وتقدير صنيعهم..
    ثم قال:
    " يا معشر الأنصار..
    مقالة بلغتني عنكم, وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم..؟؟
    ألم آتكم ضلالا فهداكم الله..؟؟
    وعالة, فأغناكم الله..؟
    وأعداء, فألف الله بين قلوبكم..؟؟"
    قالوا:
    " بلى الله ورسوله أمنّ وأفضل..
    قال الرسول:
    ألا تجيبونني يا معشر الأنصار..؟
    قالوا:
    بم نجيبك يا رسول الله..؟؟
    لله ولرسوله المن والفضل..
    قال الرسول:
    أما والله لو شئتم لقلتم, فلصدقتم وصدّقتم:
    أتيتنا مكذوبا, فصدّقناك..
    ومخذولا, فنصرناك...
    وعائلا, فآسيناك..
    وطريدا, فآويناك..
    أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا, ووكلتم إلى إسلامكم..؟؟
    ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير, وترجعوا أنتم برسول الله إلى رحالكم..؟؟
    فوالذي نفسي بيده, لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار..
    ولو سلك الناس شعبا لسلكت شعب الأنصار..
    اللهم ارحم الأنصار..
    وأبناء الأنصار..
    وأبناء أبناء الأنصار"...!!
    هنالك بكى الأنصار حتى أخضلوا لحاهم.
    فقد ملأت كلمات الرسول الجليل العظيم أفئدتهم سلاما, وأرواحهم ثراء, وأنفسهم عافية..
    وصاحوا جميعا وسعد بن عبادة معهم:
    " رضينا برسول الله قسما وحظا"..

    وفي الأيام الأولى من خلافة عمر ذهب سعد إلى أمير المؤمنين, وبنفس صراحته المتطرفة قال له:
    " كان صاحبك أبو بكر,والله, أحب إلينا منك..
    وقد ,والله, أصبحت كارها لجوارك"..!!
    وفي هدوء أجابه عمر:
    " إن من كره جوار جاره, تحوّل عنه"..
    وعاد سعد فقال:
    " إني متحوّل إلى جوار من هو خير منك"..!!

    ما كان سعد رضي الله عنه بكلماته هذه لأمير المؤمنين عمر ينفّس عن غيظ, أو يعبّر عن كراهية..
    فان من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا, لا يرفض الولاء لرجل مثل عمر, طالما رآه موضع تكريم الرسول وحبّه..
    إنما أراد سعد وهو واحد من الأصحاب الذين نعتهم القرآن بأنهم رحماء بينهم..
    ألا ينتظر ظروفا, قد تطرأ بخلاف بينه وبين أمير المؤمنين, خلاف لا يريده, ولا يرضاه..

    وشدّ رحاله إلى الشام..
    وما كاد يبلغها وينزل أرض حوران حتى دعاه أجله, وأفضى إلى جوار ربه الرحيم..


  6. #16
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    أبو ذر الغفاري ( زعيم المعارضة وعدو الثروات )

    أقبل على مكة نشوان مغتبطا..
    صحيح أن وعثاء السفر وفيح الصحراء قد وقذاه بالضنى والألم, بيد أن الغاية التي يسعى إليها, أنسته جراحه, وأفاضت على روحه الحبور والبشور.
    ودخلها متنكرا, كأنه واحد من أولئك الذين يقصدونها ليطوّفوا بآلهة الكعبة العظام.. أو كأنه عابر سبيل ضل طريقه, أو طال به السفر والارتحال فأوى إليها يستريح ويتزوّد.
    فلو علم أهل مكة أنه جاء يبحث عن محمد صلى الله عليه وسلم, ويستمع إليه لفتكوا به.
    وهو لا يرى بأسا في أن يفتكوا به, ولكن بعد أن يقابل الرجل إلي قطع الفيافي ليراه, وبعد أن يؤمن به, إن اقتنع بصدقه واطمأن لدعوته..
    ولقد مضى يتسمّع الأنباء من بعيد, وكلما سمع قوما يتحدثون عن محمد اقترب منهم في حذر, حتى جمع من نثارات الحديث هنا وهناك ما دله على محمد, وعلى المكان الذي يستطيع أن يراه فيه.
    في صبيحة يوم ذهب إلى هناك, فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم جالساًوحده, فاقترب منه وقال: نعمت صباحا يا أخا العرب..
    فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام: وعليك السلام يا أخاه.
    قال أبو ذر:أنشدني مما تقول..
    فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام: ما هو بشعر فأنشدك, ولكنه قرآن كريم.
    قال أبو ذر: اقرأ عليّ..
    فقرأ عليه الرسول, وأبو ذر يصغي.. ولم يمض من الوقت غير قليل حتى هتف أبو ذر:
    "أشهد أن لا اله إلا الله.
    وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"!
    وسأله النبي: ممن أنت يا أخا العرب..؟
    فأجابه أبو ذر: من غفار..
    وتألقت ابتسامة على فم الرسول صلى الله عليه وسلم, واكتسى وجهه الدهشة والعجب..
    وضحك أبو ذر كذلك, فهو يعرف سر العجب الذي كسا وجه الرسول عليه السلام حين علم أن هذا الذي يجهر بالإسلام أمامه إنما هو رجل من غفار..!!
    فغفار هذه قبيلة لا يدرك لها شأو في قطع الطريق..!!
    وأهلها مضرب الأمثال في السطو غير المشروع.. إنهم حلفاء الليل والظلام, والويل لمن يسلمه الليل إلى واحد من قبيلة غفار.
    أفيجيء منهم اليوم, والإسلام لا يزال دينا غصّا مستخفياَ, واحد ليسلم..؟!

    يقول أبو ذر وهو يروي القصة بنفسه:
    ".. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بصره ويصوّبه تعجبا, لما كان من غفار, ثم قال: إن الله يهدي من يشاء.
    ولقد كان أبو ذر رضي الله عنه أحد الذين شاء لهم الهدى, وأراد بهم الخير.
    وإنه لذو بصر بالحق, فقد روي عنه أنه أحد الذين شاء الله لهم الهدى, وأراد بهم الخير.
    وانه لذو بصر بالحق, فقد روي عنه أنه أحد الذين كانوا يتألهون في الجاهلية, أي يتمرّدون على عبادة الأصنام , ويذهبون إلى الإيمان باله خالق عظيم. وهكذا ما كاد يسمع بظهور نبي يسفّه عبادة الأصنام وعبّادها, ويدعو إلى عبادة الله الواحد القهار, حتى حث إليه الخطى, وشدّ الرحال.

    أسلم أبو ذر من فوره..
    وكان ترتيبه في المسلمين الخامس أو السادس..
    إذن, هو قد أسلم في الأيام الأولى, بل الساعات الأولىللإسلام, وكان إسلامه مبكرا..
    وحين أسلم كلن الرسول يهمس بالدعوة همسا.. يهمس بها إلى نفسه, وإلى الخمسة الذين آمنوا معه, ولم يكن أمام أبي ذر إلا أن يحمل إيمانه بين جنبيه, ويتسلل به مغادراً مكة, وعائدا إلى قومه...
    ولكن أبا ذر, جندب بن جنادة, يحمل طبيعة فوارة جيّاشة.
    لقد خلق ليتمرّد على الباطل أنى يكون.. وها هو ذا يرى الباطل بعينيه.. حجارة مرصوصة, ميلاد عابديها أقدم من ميلادها, تنحني أمامها الجباه والعقول, ويناديها الناس: لبيك.. لبيك..!!
    وصحيح أنه رأى الرسول يؤثر لهمس في أيامه تلك.. ولكن لا بدّ من صيحة يصيحها هذا الثائر الجليل قبل أن يرحل.
    لقد توجه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فور إسلامه بهذا السؤال:
    يا رسول الله, بم تأمرني..؟
    فأجابه الرسول: ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري..
    فقال أبو ذر: والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد..!!
    ألم أقل لكم..؟؟
    تلك طبيعة متمرّدة جيّاشة, أفي اللحظة التي يكشف فيها أبو ذر عالما جديدا بأسره يتمثل في الرسول الذي آمن به, وفي الدعوة التي سمع بتباشيرها على لسانه.. أفي هذه اللحظة يراد له أن يرجع إلى أهله صامتا.؟
    هذا أمر فوق طاقته..
    هنالك دخل المسجد الحرام ونادى بأعلى صوته:
    [أشهد أن لا اله إلا الله.. وأشهد أن محمدا رسول الله]...

    كانت هذه الصيحة أول صيحة بالإسلام تحدّت كبرياء قريش وقرعت أسماعها.. صاحها رجل غريب ليس له في مكّة حسب ولا نسب ولا حمى..
    ولقد لقي ما لم يكن يغيب عن فطنته أنه ملاقيه.. فقد أحاط به المشركون وضربوه حتى صرعوه..
    وترامى النبأ إلى العباس عم النبي, فجاء يسعى, وما استطاع أن ينقذه من بين أنيابهم إلا بالحيلة الذكية, قال له:
    "يا معشر قريش, أنتم تجار, وطريقكم على غفار,, وهذا رجل من رجالها, إن يحرّض قومه عليكم, يقطعوا على قوافلكم الطريق".. فثابوا إلى رشدهم وتركوه.
    ولكن أبا ذر, وقد ذاق حلاوة الأذى في سبيل الله, لا يريد أن يغادر مكة حتى يظفر من طيباته بمزيد...!!
    وهكذا لا يكاد في اليوم الثاني وربما في نفس اليوم, يلقى امرأتين تطوفان بالصنمين (أساف, ونائلة) ودعوانهما, حتى يقف عليهما ويسفه الصنمين تسفيها مهينا.. فتصرخ المرأتان, ويهرول الرجال كالجراد, ثم لا يفتون يضربونه حتى يفقد وعيه..
    وحين يفيق يصرخ مرة أخرى بأنه " يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله". ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد, وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل. بيد أن وقته لم يأت بعد, فيعيد عليه أمره بالعودة إلى قومه, حتى إذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلوه..

    ويعود أبو ذر إلى عشيرته وقومه, فيحدثهم عن النبي الذي ظهر يدعو إلى عبادة الله وحده ويهدي لمكارم الأخلاق, ويدخل قومه في الإسلام, واحدا اثر واحد.. ولا يكتفي بقبيلته غفار, بل ينتقل إلى قبيلة أسلم فيوقد فيها مصابيحه..!!
    وتتابع الأيام رحلتها في موكب الزمن, ويهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة, ويستقر بها والمسلمون معه.
    وذات يوم تستقبل مشارفها صفوفا طويلة من المشاة والركبان, أثارت أقدامهم النقع.. ولولا تكبيراتهم الصادعة, لحبسهم الرائي جيشا مغيرا من جيوش الشرك..
    اقترب الموكب اللجب.. ودخل المدينة.. ويمم وجهه شطر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامه..
    لقد كان الموكب قبيلتي غفار وأسلم, جاء بهما أبو ذر مسلمين جميعا رجإلا ونساء. شيوخا وشبابا, وأطفالا..!!
    وكان من حق الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزداد عجبا ودهشة..
    فبالأمس البعيد عجب كثيرا حين رأى أمامه رجلا واحدا من غفار يعلن إسلامه وإيمانه, وقال معبّرا عن دهشته:
    "إن الله يهدي من يشاء"..!!
    أما اليوم فان قبيلة غفار بأجمعها تجيئه مسلمة. وقد قطعت في الإسلام بضع سنين منذ هداها الله على يد أبي ذر, وتجيء معها قبيلة أسلم..
    إن عمالقة السطور وحلفاء الشيطان, قد أصبحوا عمالقة في الخير وحلفاء للحق.
    أليس الله يهدي من يشاء حقا..؟؟
    لقد ألقى الرسول عليه الصلاة والسلام على وجوههم الطيبة نظرات تفيض غبطة وحنانا وودا..
    ونظر إلى قبيلة غفار وقال:
    "غفار غفر الله لها".
    ثم إلى قبيلة أسلم فقال:
    "وأسلم سالمها الله"..
    وأبو ذر هذا الداعية الرائع.. القوي الشكيمة, العزيز المنال.. إلا يختصه الرسول عليه الصلاة والسلام بتحية..؟؟
    أجل.. ولسوف يكون جزاؤه موفورا, وتحيته مباركة..
    ولسوف يحمل صدره, ويحمل تاريخه, أرفع الأوسمة وأكثرها جلالا وعزة..
    ولسوف تفنى القرون والأجيال, والناس يرددون رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في أبي ذر:
    " ما أقلّت الغبراء, ولا أظلّت الصحراء أصدق لهجة من أبي ذر"..!!
    ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد, وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل.. بيد أن وقته لم يأت بعد, فيعيد عليه أمره بالعودة إلى قومه, حتى إذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلّوه..

    أصدق لهجة في أبي ذر..؟
    لقد قرأ الرسول عليه الصلاة والسلام مستقبل صاحبه, ولخص حياته كلها في هذه الكلمات..
    فالصدق الجسور, هو جوهر حياة أبي ذر كلها..
    صدق باطنه, وصدق ظاهره..
    صدق عقيدته وصدق لهجته..
    ولسوف يحيا صادقا.. لا يغالط نفسه, ولا يغالط غيره, ولا يسمح لأحد أن يغالطه..
    ولئن يكون صدقه فضيلة خرساء.. فالصدق الصامت ليس صدقا عند أبي ذر..
    إنما الصدق جهر وعلن.. جهر بالحق وتحد للباطل..تأييد للصواب ودحض للخطأ..
    الصدق ولاء رشيد للحق, وتعبير جريء عنه, وسير حثيث معه..

    ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ببصيرته الثاقبة عبر الغيب القصيّ والمجهول البعيد كل المتاعب التي سيفيئها على أبي ذر صدقه وصلابته, فكان يأمره دائما أن يجعل الأناة والصبر نهجه وسبيله.
    وألقى الرسول يوما هذا السؤال:
    " يا أبا ذر كيف أنت إذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء"..؟
    فأجاب قائلا:
    "إذن والذي بعثك بالحق, لأضربن بسيفي".!!
    فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام:
    "أفلا أدلك على خير من ذلك..؟
    اصبر حتى تلقاني".
    ترى لماذا سأله الرسول هذا السؤال بالذات..؟؟
    الأمراء .. والمال..؟؟

    تلك قضية أبي ذر التي سيهبها حياته, وتلك مشكلته مع المجتمع ومع المستقبل..
    ولقد عرفها رسول الله فألقى عليه السؤال, ليزوده هذه النصيحة الثمينة:"اصبر حتى تلقاني"..
    ولسوف يحفظ أبوذر وصية معلمه, فلن يحمل السيف الذي توّد به الأمراء الذين يثرون من مال الأمة.. ولكنه أيضا لن يسكت عنهم لحظة من نهار..
    أجل إذا كان الرسول قد نهاه عن حمل السيف في وجوههم, فانه لا ينهاه عن أن يحمل في الحق لسانه البتار..
    ولسوف يفعل..

    ومضى عهد الرسول, ومن بعده عصر أبي بكر, وعصر عمر في تفوق كامل على مغريات الحياة ودواعي الفتنة فيها..
    حتى تلك النفوس المشتهية الراغبة, لم تكن تجد لرغباتها سبيلا ولا منفذا.
    وأيامئذ, لم تكن ثمة انحرافات يرفع أبو ذر ضدها صوته ويفلحها بكلماته اللاهبة...

    ولقد طال عهد أمير المؤمنين عمر, فارضا على ولاة المسلمين وأمرائهم وأغنيائهم في كل مكان من الأرض, زهدا وتقشفا, ودعلا يكاد يكون فوق طاقة البشر..

    إن واليا من ولاته في العراق, أو في الشام, أو في صنعاء.. أو في أي من البلاد النائية البعيدة, لا يكاد يصل إليها نوعا من الحلوى, لا يجد عامة الناس قدرة على شرائه, حتى يكون الخبر قد وصل إلى عمر بعد أيام. وحتى تكون أوامره الصارمة قد ذهبت لتستدعي ذلك الوالي إلى المدينة ليلقى حسابه العسير..!!
    ليهنأ أبو ذر إذن.. وليهنأ أكثر ما دام الفاروق العظيم أميرا للمؤمنين..
    وما دام لا يضايق أبا ذر في حياته شيء مثلما يضايق استغلال السلطة, واحتكار الثروة, فان ابن الخطاب بمراقبته الصارمة للسلطة, وتوزيعه العادل للثروة سيتيح له الطمأنينة والرضا..
    وهكذا تفرغ لعبادة ربه, وللجهاد في سبيله.. غير لائذ بالصمت إذا رأى مخالفة هنا, أو هناك.. وقلما كان يرى..

    بيد أن أعظم, وأعدل, وأروع حكام البشرية قاطبة يرحل عن الدنيا ذات يوم, تاركا وراءه فراغا هائلا, ومحدثا رحيله من ردود الفعل ما لا مفرّ منه ولا طاقة للناس به. وتستمر الفتوح في مدّها, ويعلو معها مد الرغبات والتطلع إلى مناعم الحياة وترفها..
    ويرى أبو ذر الخطر..

    إن ألوية المجد الشخصي توشك أن تفتن الذين كل دورهم في الحياة أن يرفعوا راية الله..
    إن الدنيا بزخرفها وغرورها الضاري, توشك أن تفتن الذين كل رسالتهم أن يجعلوا منها مزرعة للأعمال الصالحات..
    إن المال الذي جعله الله خادما مطيعا للإنسان, يوشك أن يتحوّل إلى سيّد مستبد..
    ومع من؟
    مع أصحاب محمد الذي مات ودرعه مرهونة, في حين كانت أكوام الفيء والغنائم عند قدميه..!!
    إن خيرات الأرض التي ذرأها الله للناس جميعا.. وجعل حقهم فيها متكافئا توشك أن أصير حكرا ومزية..
    إن السلطة التي هي مسؤولية ترتعد من هول حساب الله عليها أفئدةالأبرار, تتحول إلى سبيل للسيطرة, وللثراء, وللترف المدمر الوبيل..
    رأى أبو ذر كل هذا فلم يبحث عن واجبه ولا عن مسؤوليته.. بل راح يمد يمينه إلى سيفه.. وهز به الهواء فمزقه, ونهض قائما يواجه المجتمع بسيفه الذي لم تعرف له كبوة.. لكن سرعان ما رنّ في فؤاده صدى الوصية التي أوصاه بها الرسول, فأعاد السيف إلى غمده, فما ينبغي أن يرفعه في وجه مسلم..
    (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ)
    ليس دوره اليوم أن يقتل.. بل أن يعترض..
    وليس السيف أداة التغيير والتقويم, بل الكلمة الصادقة, الأمينةالمستبسلة..
    الكلمة العادلة التي لا تضل طريقها, ولا ترهب عواقبها.

    لقد أخبر الرسول يوما وعلى ملأ من أصحابه, أن الأرض لم تقلّ, وأن السماء لم تظلّ أصدق لهجة من أبي ذر..
    ومن كان يملك هذا القدر من صدق اللهجة, وصدق الاقتناع, فما حاجته إلى السيف..؟
    إن كلمة واحدة يقولها, لأمضى من ملء الأرض سيوفا..

    فليخرج بصدقه هذا, إلى الأمراء.. إلى الأغنياء. إلى جميع الذين أصبحوا يشكلون بركونهم إلى الدنيا خطرا على الدين الذي جاء هاديا, لا جابيا.. ونبوة لا ملكا,.. ورحمة لا عذابا.. وتواضعا لا استعلاء.. وتكافؤ لا تمايز.. وقناعة لا جشعا.. وكفاية لا ترفا.. واتئادا في أخذ الحياة, لا فتونا بها ولا تهالكا عليها..
    فليخرج إلى هؤلاء جميعا, حتى يحكم الله بينهم وبينه بالحق, وهو خير الحاكمين.

    وخرج أبو ذر إلى معاقل السلطة والثروة, يغزوها بمعارضته معقلا معقلا.. وأصبح في أيام معدودات الراية التي التفت حولها الجماهير والكادحون.. حتى في الأقطار النائية التي لم يره أهلها بعد.. طار إليها ذكره. وأصبح لا يمر بأرض, بل ولا يبلغ اسمه قوما إلا أثار تساؤلات هامّة تهدد مصالح ذوي السلطة والثراء.
    ولو أراد هذا الثائر الجليل أن يتخذ لنفسه ولحركته علما خاصا لما كان الشعار المنقوش على العلم سوى مكواة تتوهج حمرة ولهبا, فقد جعل نشيده وهتافه الذي يردده في كل مكان وزمان.. ويردده الإنس عنه كأنه نشيد.. هذه الكلمات:
    "بشّر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة"..!!
    لا يصعد جبلا, ولا ينزل سهلا, ولا يدخل مدينة, ولا يواجه أميرا إلا وهذه الكلمات على لسانه.
    ولم يعد الإنس يبصرونه قادما إلا استقبلوه بهذه الكلمات:
    " بشّر الكانزين بمكاو من نار"..
    لقد صارت هذه العبارة علما على رسالته التي نذر حياته لها, حين رأى الثروات تتركز وتحتكر.. وحين رأى السلطة استعلاء واستغلال.. وحين رأى حب الدنيا يطغى ويوشك أن يطمر كل ما صنعته سنوات الرسالة العظمى من جمال وورع, وتفان وإخلاص..

    لقد بدأ بأكثر تلك المعاقل سيطرة ورهبة.. هناك في الشام حيث "معاوية بن أبي سفيان" يحكم أرضا من أكثر بلاد الإسلام خصوبة وخيرا وفيضا, وانه ليعطي الأموال ويوزعها بغير حساب, يتألف بها الناس الذين لهم حظ ومكانة, ويؤمن بها مستقبله الذي كان يرنو إليه طموحه البعيد.
    هناك الضياع والقصور والثروات تفتن الباقية من حملة الدعوة, فليدرك أبو ذر الخطر قبل أن يحيق ويدمّر..
    وحسر زعيم المعارضة رداءه المتواضع عن ساقيه, وسابق الريح إلى الشام..
    ولم يكد الناس العاديون يسمعون بمقدمه حتى استقبلوه في حماسة وشوق, والتفوا حوله أينما ذهب وسار..
    حدثنا يا أبا ذر..
    حدثنا يا صاحب رسول الله..
    ويلقي أبو ذر على الجموع حوله نظرات فاحصة, فيرى أكثرها ذوي خصاصة وفقر.. ثم يرنو ببصره نحو المشارف القريبة فيرى القصور والضياع..
    ثم يصرخ في الحافين حوله قائلا:
    " عجبت لمن لا يجد القوت في بيته, كيف لا يخرج على الإنس شاهرا سيفه"..؟؟!!

    ثم يذكر من فوره وصية رسول الله أن يضع الأناة مكان الانقلاب, والكلمة الشجاعة مكان السيف.. فيترك لغة الحرب هذه ويعود إلى لغة المنطقوالاقتناع, فيعلم الناس جميعا أنهم جميعا سواسية كأسنان المشط.. وأنهم جميعا شركاء في الرزق.. وأنه لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.. وأن أمير القوم ووليهم, هو أول من يجوع إذا جاعوا, وآخر من شبع إذا شبعوا..
    لقد قرر أن يخلق بكلماته وشجاعته رأيا عامّا من كل بلاد الإسلام يكون له من الفطنة والمناعة, والقوة ما يجعله شكيمة لأمرائه وأغنيائه, وما يحول دون ظهور طبقات مستغلة للحكم, أو محتكرة للثروة.

    وفي أيام قلائل, كانت الشام كلها كخلايا نحل وجدت ملكتها المطاعة.. ولو أعطى أبو ذر إشارة عابرة بالثورة لاشتعلت نارا.. ولكنه كما قلنا, حصر اهتمامه في خلق رأي عام يفرض احترامه, وصارت كلماته حديث المجالس والمساجد والطريق.
    ولقد بلغ خطره على الامتيازات الناشئة مداه, يوم ناظر معاوية على ملأ من الناس. ثم أبلغ الشاهد للمناظرة, الغائب عنها. وسارت الرياح بأخبارها..

    ولقد وقف أبو ذر أصدق العالمين لهجة, كما وصفه نبيه وأستاذه..
    وقف يسائل معاوية في غير خوف ولا مداراة عن ثروته قبل أن يصبح حاكما, وعن ثروته اليوم..!!
    وعن البيت الذي كان يسكنه بمكة, وعن قصوره بالشام اليوم..!!
    ثم يوجه السؤال للجالسين حوله من الصحابة الذين صحبوا معاوية إلى الشام وصار لبعضهم قصور وضياع.
    ثم يصيح فيهم جميعا: أفأنتم الذين نزل القرآن على الرسول وهو بين ظهرانيهم..؟؟
    ويتولى الإجابة عنهم: نعم أنتم الذين نزل فيكم القرآن, وشهدتم مع الرسول المشاهد..
    ثم يعود ويسأل: ألا تجدون في كتاب الله هذه الآية:
    (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) )..؟؟ ( التوبة )

    ويختلان معاوية طريق الحديث قائلا: لقد أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب..
    ويصيح أبو ذر: لا بل أنزلت لنا ولهم..
    ويتابع أبو ذر القول ناصحا معاوية ومن معه أن يخرجوا كل ما بأيديهم من ضياع وقصور وأموال.. وألا يدّخر أحدهم لنفسه أكثر من حاجات يومه..
    وتتناقل المحافل والجموع نبأ هذه المناظرة وأنباء أبي ذر..
    ويتعالى نشيد أبي ذر في البيوت والطرقات:
    (بشّر الكانزين بمكاو من نار يوم القيامة)..

    ويستشعر معاوية الخطر, وتفزعه كلمات الثائر الجليل, ولكنه يعرف له قدره, فلا يقربه بسوء, ويكتب عن فوره للخليفة عثمان رضي الله عنه يقول له:" إن أبا ذر قد أفسد الإنس بالشام"..
    ويكتب عثمان لأبي ذر يستدعيه للمدينة.
    ويحسر أبي ذر طرف ردائه عن ساقيه مرّة أخرى ويسافر إلى المدينة تاركا الشام في يوم لم تشهد دمشق مثله يوما من أيام الحفاوة والوداع..!!

    (لا حاجة لي في دنياكم)..!!
    هكذا قال أبو ذر للخليفة عثمان بعد أن وصل إلى المدينة, وجرى بينهما حوار طويل.
    لقد خرج عثمان من حواره مع صاحبه, ومن الأنباء التي توافدت عليه من كلالأقطار عن مشايعة الجماهير لآراء أبي ذر, بادراك صحيح لخطر دعوته وقوتها, وقرر أن يحتفظ به إلى جواره في المدينة, محددا بها إقامته.
    ولقد عرض عثمان قراره على أبي ذر عرضا رفيقا, رقيقا, فقال له:" ابق هنا بجانبي, تغدو عليك القاح وتروح"..
    وأجابه أبو ذر:
    (لا حاجة لي في دنياكم).!

    أجل لا حاجة له في دنيا الناس.. انه من أولئك القديسين الذين يبحثون عن ثراء الروح, ويحيون الحياة ليعطوا لا ليأخذوا..!!
    ولقد طلب من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يأذن له الخروج إلى الرّبذة فأذن له..

    ولقد ظل وهو في احتدام معارضته أمينا لله ورسوله, حافظا في أعماق روحه النصيحة التي وجهها إليه الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يحمل السيف.. لكأن الرسول رأى الغيب كله.. غيب أبي ذر ومستقبله, فأهدى إليه هذه النصيحة الغالية.
    ومن ثم لم يكن أبو ذر ليخفي انزعاجه حين يرى بعض المولعين بإيقاد الفتنة يتخذون من دعوته سببا لإشباع ولعهم وكيدهم.
    جاءه يوما وهو في الرّبدة وفد من الكوفة يسألونه أن يرفع راية الثورة ضد الخليفة, فزجرهم بكلمات حاسمة:
    " والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة, أ جبل, لسمعت, وأطعت, وصبرت واحتسبت, ورأيت ذلك خيرا لي.."
    " ولوسيّرني ما بين الأفق إلى الأفق , لسمعت وأطعت, وصبرت واحتسبت, ورأيت ذلك خيرا لي..
    " ولو ردّني إلى منزلي, لسمعت وأطعت, وصبرت واحتسبت, ورأيت ذلك خيرا لي"..

    ذلك رجل لا يريد غرضا من أغراض الدنيا, ومن ثم أفاء الله عليه نور البصيرة.. ومن ثم مرة أخرى أدرك ما تنطوي عليه الفتنة المسلحة من وبال وخطر فتحاشاها.. كما أدرك ما ينطوي عليه الصمت من وبال وخطر, فتحاشاه أيضا, ورفع صوته لا سيفه بكلمة الحق ولهجة الصدق, لا أطماع تغريه.. ولا عواقب تثنيه..!
    لقد تفرّغ أبو ذر للمعارضة الأمينة وتبتّل.

    وسيقضي عمره كله يحدّق في أخطاء الحكم وأخطاء المال, فالحكم والمال يملكان من الإغراء والفتنة ما يخافه أبو ذر على إخوانه الذين حملوا راية الإسلام مع رسولهم صلى الله عليه وسلم, والذين يجب أن يظلوا لها حاملين.
    والحكم والمال أيضا, هما عصب الحياة للأمة والجماعات, فإذا اعتورهما الضلال تعرضت مصاير الناس للخطر الأكيد.
    ولقد كان أبو ذر يتمنى لأصحاب الرسول إلا يلي أحد منهم إمارة أو يجمع ثروة, وأن يظلوا كما كانوا روّاد للهدى, وعبّادا لله..
    وقد كان يعرف ضراوة الدنيا وضراوة المال, وكان يدرك أن أبا بكر وعمر لن يتكررا.. ولطالما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من إغراءالإمارة ويقول عنها:
    ".. إنها أمانة, وإنها يوم القيامة خزي وندامة.. إلا من أخذها بحقها, وأدّى الذي عليه فيها"...

    ولقد بلغ الأمر بأبي ذر ليتجنّب إخوانه إن لم يكن مقاطعتهم,لأنهم ولواالإمارات, وصار لهم بطبيعة الحال ثراء وفرة..
    لقيه أبو موسى الأشعري يوما, فلم يكد يراه حتى فتح له ذراعيه وهو يصيح من الفرح بلقائه:" مرحبا أبا ذر.. مرحبا بأخي".
    ولكن أبا ذر دفعه عنه وهو يقول:
    " لست بأخيك, إنما كنت أخاك قبل أن تكون واليا وأميرا"..!
    كذلك لقيه أبو هريرة يوما واحتضنه مرحّبا, ولكن أبا ذر نحّاه عنه بيده وقال له:
    (اليك عني.. ألست الذي وليت الإمارة, فتطاولت في البنيان, واتخذت لك ماشية وزرعا)..؟؟
    ومضى أبو هريرة يدافع عن نفسه ويبرئها من تلك الشائعات..

    وقد يبدو أبو ذر مبالغا في موقفه من الحكم والثروة..
    ولكن لأبي ذر منطقه الذي يشكله صدقه مع نفسه, ومع إيمانه, فأبو ذر يقف بأحلامه وأعماله.. بسلوكه ورؤاه, عند المستوى الذي خلفه لهم رسول الله وصاحباه.. أبو بكر وعمر..

    وإذا كان البعض يرى في ذلك المستوى مثالية لا يدرك شأوها, فان أبا ذر يراها قدوة ترسم طريق الحياة والعمل, ولا سيما لأولئك الرجال الذين عاصروا الرسول عليه السلام, وصلوا وراءه, وجاهدوا معه, وبايعوه على السمع والطاعة.
    كما أنه يدرك بوعيه المضيء, ما للحكم وما للثروة من أثر حاسم في مصاير الناس, ومن ثم فان أي خلل يصيب أمانة الحكم, أو عدالة الثروة, يشكل خطرا يجب دحضه ومعارضته.

    ولقد عاش أبو ذر ما استطاع حاملا لواء القدوة العظمى للرسول عليه السلام وصاحبيه, أمينا عليها, حارسا لها.. وكان أستاذ في فن التفوق على مغريات الإمارة والثروة,...
    عرضت عليه الإمارة بالعراق فقال:
    " لا والله.. لن تميلوا عليّ بدنياكم أبدا"..
    ورآه صاحبه يوما يلبس جلبابا قديما فسأله:
    أليس لك ثوب غير هذا..؟! لقد رأيت معك منذ أيام ثوبين جديدين..؟
    فأجابه أبو ذر: " يا بن أخي.. لقد أعطيتهما من هو أحوج إليهما مني"..
    قال له: والله انك لمحتاج إليهما!!
    فأجاب أب ذر: "اللهم اغفر.. انك لمعظّم للدنيا, ألست ترى عليّ هذه البردة..؟؟ ولي أخرى لصلاة الجمعة, ولي عنزة أحلبها, وأتان أركبها, فأي نعمة أفضل ما نحن فيه"..؟؟

    وجلس يوما يحدّث ويقول:
    [أوصاني خليلي بسبع..
    أمرني بحب المساكين والدنو منهم..
    وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني, ولا أنظر إلى من هو فوقي..
    وأمرني إلا أسأل أحد شيئا..
    وأمرني أن أصل الرحم..
    وأمرني أن أقول الحق وان كان مرّا..
    وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم..
    وأمرني أن أكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله].

    ولقد عاش هذه الوصية, وصاغ حياته وفقها, حتى صار "ضميرا" بين قومه وأمته..

    ويقول الإمام علي رضي الله عنه:
    "لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر"..!!
    عاش يناهض استغلال الحكم, واحتكار الثروة..
    عاش يدحض الخطأ, ويبني الصواب..
    عاش متبتلا لمسؤولية النصح والتحذير..
    يمنعونه من الفتوى, فيزداد صوته بها ارتفاعا, ويقول لمانعيه:
    " والذي نفسي بيده, لو وضعتم السيف فوق عنقي, ثم ظننت أني منفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تحتزوا لأنفذتها"..!!

    ويا ليت المسلمين استمعوا يومئذ لقوله ونصحه..
    إذن لما ماتت في مهدها تلك الفتن التي تفقم فيما بعد أمرها واستفحل خطرها, وعرّضت المجتمع والإسلام لأخطار, ما كان أقساها من أخطار.
    والآن يعالج أبو ذر سكرات الموت في الربذة.. المكان الذي اختار الإقامةفيه اثر خلافه مع عثمان رضي الله عنه, فتعالوا بنا إليه نؤد للراحل العظيم تحية الوداع, ونبصر في حياته الباهرة مشهد الختام.
    ان هذه السيدة السمراء الضامرة, الجالسة إلى جواره تبكي, هي زوجته..
    وانه ليسألها: فيم البكاء والموت حق..؟
    فتجيبه بأنها تبكي: " لأنك تموت, وليس عندي ثوب يسعك كفنا"..!!
    ".. لا تبكي, فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض, تشهده عصابة من المؤمنين..
    وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية, ولم يبق منهم غيري .. وهاأنذا بالفلاة أموت, فراقبي الطريق,, فستطلع علينا عصابة من المؤمنين, فاني والله ما كذبت ولا كذبت".
    وفاضت روحه إلى الله..
    ولقد صدق..
    فهذه القافلة التي تغذ السير في الصحراء, تؤلف جماعة من المؤمنين, وعلى رأسهم عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله.
    وان ابن مسعود ليبصر المشهد قبل أن يبلغه.. مشهد جسد ممتد يبدو كأنه جثمان ميّت, وإلى جواره سيدة وغلام يبكيان..
    ويلوي زمام دابته والركب معه صوب المشهد, ولا يكاد يلقي نظرة على الجثمان, حتى تقع عيناه على وجه صاحبه وأخيه في الله والإسلام أبي ذر.
    وتفيض عيناه بالدمع, ويقف على جثمانه الطاهر يقول:" صدق رسول الله.. نمشي وحدك, وتموت وحدك, وتبعث وحدك".!
    ويجلس ابن مسعود رضي الله عنه لصحبه تفسير تلك العبارة التي نعاه بها:" تمشي وحدك.. وتموت حدك.. وتبعث وحدك"...

    كان ذلك في غزوة تبوك.. سنة تسع من الهجرة, وقد أمر الرسول عليه السلام بالتهيؤ لملاقاة الروم, الذين شرعوا يكيدون للإسلام ويأتمرون به.
    وكانت الأيام التي دعى فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ..
    وكانت الشقة بعيدة.. والعدو مخيفا..
    ولقد تقاعس عن الخروج نفر من المسلمين, تعللوا بشتى المعاذير..
    وخرج الرسول وصحبه.. وكلما أمعنوا في السير ازدادوا جهدا ومشقة, فجعل الرجل يتخلف, ويقولون يا رسول الله تخلف فلان, فيقول:
    " دعوه.
    فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم..
    وان يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه"..!!
    وتلفت القوم ذات مرة, فلم يجدوا أبا ذر.. وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام:
    لقد تخلف أبو ذر, وأبطأ به بعيره..
    وأعاد الرسول مقالته الأولى..
    كان بعير أبي ذر قد ضعف تحت وطأة الجوع والظمأ والحر وتعثرت منالإعياء خطاه..
    وحاول أبو ذر أن يدفعه للسير الحثيث بكل حيلة وجهد, ولكن الإعياء كان يلقي ثقله على البعير..
    ورأى أبو ذر أنه بهذا سيتخلف عن المسلمين وينقطع دونهم الأثر, فنزل من فوق ظهر البعير, وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى ماشيا على قدميه, مهرولا, وسط صحراء ملتهبة, كما يدرك رسوله عليه السلام وصحبه..

    وفي الغداة, وقد وضع المسلمون رحالهم ليستريحوا, بصر أحدهم فرأى سحابة من النقع والغبار تخفي وراءها شبح رجل يغذ السير..

    وقال الذي رأى: يا رسول الله, هذا رجل يمشي على الطريق وحده..
    وقال الرسول عليه الصلاة والسلام:
    (كن أبا ذر)..

    وعادوا لما كانوا فيه من حديث, ريثما يقطع القادم المسافة التي تفصله عنهم, وعندها يعرفون من هو..

    وأخذ المسافر الجليل يقترب منهم رويدا.. يقتلع خطاه من الرمل المتلظي اقتلاعا, وحمله فوق ظهره بتؤدة.. ولكنه مغتبط فرحان لأنه أردك القافلة المباركة, ولم يتخلف عن رسول الله وإخوانه المجاهدين..
    وحين بلغ أول القافلة, صاح صائهحم: يارسول الله: انه والله أبا ذر..
    وسار أبو ذر صوب الرسول.
    ولم يكد صلى الله عليه وسلم يراه حتى تألقت على وجهه ابتسامة حانية واسية, وقال:
    [يرحم الله أبا ذر..
    يمشي وحده..
    ويموت وحده..
    ويبعث وحده..].

    وبعد مضي عشرين عاما على هذا اليوم أو تزيد, مات أبو ذر وحيدا, في فلاة الربذة.. بعد أن سار حياته كلها وحيدا على طريق لم يتألق فوقه سواه.. ولقد بعث في التاريخ وحيدا في عظمة زهده, وبطولة صموده..

    ولسوف يبعث عند الله وحيدا كذلك؛ لأن زحام فضائله المتعددة, لن يترك بجانبه مكانا لأحد سواه..!!!

  7. #17
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    أبو الدرداء ( أيّ حكيم كان )


    بينما كانت جيوش الإسلام تضرب في مناكب الأرض.. هادر ظافرة.. كان يقيم بالمدينة فيلسوف عجيب.. وحكيم تتفجر الحكمة من جوانبه في كلمات تناهت نضرة وبهاء...وكان لا يفتأ يقول لمن حوله:
    " ألا أخبركم بخير أعمالكم, وأزكاها عند باريكم, وأنماها في درجاتكم, وخير من أن تغزو عدوّكم, فتضربوا رقابهم ويضربوا رقابكم, وخير من الدراهم والدنانير".؟؟
    وتشرئب أعناق الذين ينصتون له.. ويسارعون بسؤاله:
    " أي شيء هو.. يا أبا الدرداء"..؟؟
    ويستأنف أبو الدرداء حديثه فيقول ووجهه يتألق تحت أضوء الإيمان والحكمة:
    " ذكر الله...
    ولذكر الله أكبر"..

    لم يكن هذا الحكيم العجيب يبشر بفلسفة انعزالية ولم يكن بكلماته هذه يبشر بالسلبية, ولا بالانسحاب من تبعات الدين الجديد.. تلك التبعات التي يأخذ الجهاد مكان الصدارة منها...
    أجل.. ما كان أبو الدرداء ذلك الرجل, وهو الذي حمل سيفه مجاهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم, حتى جاء نصر الله والفتح..
    بيد أنه كان من ذلك الطراز الذي يجد نفسه في وجودها الممتلئ الحيّ, كلما خلا إلى التأمل, وأوى إلى محراب الحكمة, ونذر حياته لنشدان الحقيقة واليقين..؟؟
    ولقد كان حكيم تلك الأيام العظيمة أبو الدرداء رضي الله عنه إنسانا يتملكه شوق عارم إلى رؤية الحقيقة واللقاء بها..

    وإذ قد آمن بالله وبرسوله إيمانا وثيقا, فقد آمن كذلك بأن هذا الإيمان بما يمليه من واجبات وفهم, هو طريقه الأمثل والأوحد إلى الحقيقة..
    وهكذا عكف على إيمانه مسلما إلى نفسه, وعلى حياته يصوغها وفق هذا الإيمان في عزم, ورشد, وعظمة..
    ومضى على الدرب حتى وصل.. وعلى الطريق حتى بلغ مستوى الصدق الوثيق.. وحتى كان يأخذ مكانه العالي مع الصادقين تماما حين يناجي ربه مرتلا آته..
    ( إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين).
    أجل.. لقد انتهى جهاد أبي الدرداء ضدّ نفسه, ومع نفسه إلى تلك الذروة العالية.. إلى ذلك التفوق البعيد.. إلى ذلك التفاني الرهباني, الذي جعل حياته, كل حياته لله رب العالمين..!!

    والآن تعالوا نقترب من الحكيم والقدّيس.. ألا تبصرون الضياء الذي يتلألأ حول جبينه..؟
    ألا تشمّون العبير الفوّاح القادم من ناحيته..؟؟
    انه ضياء الحكمة, وعبير الإيمان..
    ولقد التقى الإيمان والحكمة في هذا الرجل الأوّاب لقاء سعيدا, أيّ سعيد..!!
    سئلت أمه عن أفضل ما كان يحب من عمل.. فأجابت:
    " التفكر والاعتبار".
    أجل لقد وعى قول الله في أكثر من آية:
    (فاعتبروا يا أولي الأبصار)...
    وكان هو يحضّ إخوانه على التأمل والتفكّر يقول لهم:
    " تفكّر ساعة خير من عبادة ليلة"..
    لقد استولت العبادة والتأمل ونشدان الحقيقة على كل نفسه.. وكل حياته..

    ويوم اقتنع بالإسلام دينا, وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الدين الكريم, كان تاجرا ناجحا من تجار المدينة النابهين, وكان قد قضى شطر حياته في التجارة قبل أن يسلم, بل وقبل أن يأتي الرسول والمسلمون المدينة مهاجرين..
    بيد أنه لم يمض على إسلامه غير وقت وجيز حتى..
    ولكن لندعه هو يكمل لنا الحديث:
    " أسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا تاجر..
    وأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة فلم يجتمعا..
    فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة.
    وما يسرّني اليوم أن أبيع وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار, حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد..
    ألا إني لا أقول لكم: إن الله حرّم البيع..
    ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"..!!

    أرأيتم كيف يتكلّم فيوفي القضيّة حقها, وتشرق الحكمة والصدق من خلال كلماته..؟؟
    انه يسارع قبل أن نسأله: وهل حرّم الله التجارة يا أبا الدرداء...؟؟
    يسارع فينفض عن خواطرنا هذا التساؤل, ويشير إلى الهدف الأسمى الذي كان ينشده, ومن أجله ترك التجارة برغم نجاحه فيها..
    لقد كان رجلا ينشد تخصصا روحيا وتفوقا يرنو إلى أقصى درجات الكمال الميسور لبني الإنسان..

    لقد أراد العبادة كمعراج يرفعه إلى عالم الخير الأسمى, ويشارف به الحق في جلاله, والحقيقة في مشرقها, ولو أرادها مجرّد تكاليف تؤدّى, ومحظورات تترك, لاستطاع أن يجمع بينها وبين تجارته وأعماله...
    فكم من تجار صالحين.. وكم من صالحين تجار...

    ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم تلههم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله.. بل اجتهدوا في إنماء تجارتهم وأموالهم ليخدموا بها قضية الإسلام, ويكفوا بها حاجات المسلمين..
    ولكن منهج هؤلاء الأصحاب, لا يغمز منهج أبو الدرداء, كما أن منهجه لا يغمز منهجهم, فكل ميسّر لما خلق له..

    وأبو الدرداء يحسّ إحساسا صادقا أنه خلق لما نذر له حياته..
    التخصص في نشدان الحقيقة بممارسة أقصى حالات التبتل وفق الإيمان الذي هداه إليه ربه, ورسوله والإسلام..
    سمّوه إن شئتم تصوّفا..
    ولكنه تصوّف رجل توفر له فطنة المؤمن, وقدرة الفيلسوف, وتجربة المحارب, وفقه الصحابي, ما جعل تصوّفه حركة حيّة في بناء الروح, لا مجرّد ظلال صالحة لهذا البناء..!!

    أجل..
    ذلك هو أبو الدرداء, صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلميذه..
    وذلكم هو أبو الدرداء, الحكيم, القدّيس..
    ورجل دفع الدنيا بكلتا راحتيه, وزادها بصدره..
    رجل عكف على نفسه وصقلها وزكّاها, وحتى صارت مرآة صافية انعكس عليها من الحكمة, والصواب, والخير, ما جعل من أبي الدرداء معلما عظيما وحكيما قويما..
    سعداء, أولئك الذين يقبلون عليه, ويصغون إليه..
    ألا تعالوا نقترب من حكمته يا أولي الألباب..
    ولنبدأ بفلسفته تجاه الدنيا وتجاه مباهجها وزخارفها..
    انه متأثر حتى أعماق روحه بآيات القرآن الرادعة عن:
    ( الذي جمع مالا وعدّده.. يحسب أن ماله أخلده)...
    ومتأثر حتى أعماق روحه بقول الرسول:
    " ما قلّ وكفى, خير مما كثر وألهى"..
    ويقول عليه السلام:
    " تفرّغوا من هموم الدنيا ما استطعتم, فانه من كانت الدنيا أكبر همّه, فرّق الله شمله, وجعل فقره بين عينيه.. ومن كانت الآخرة أكبر همّه جمع شمله, وجعل غناه في قلبه, وكان الله إليه بكل خير أسرع".
    من أجل ذلك, كان يرثي لأولئك الذين وقعوا أسرى طموح الثروة ويقول:
    " اللهم إني أعوذ بك من شتات القلب"..
    سئل:
    وما شتات القلب يا أبا الدرداء..؟؟
    فأجاب:
    أن يكون لي في كل واد مال"..!!
    وهو يدعو الناس إلى امتلاك الدنيا والاستغناء عنها.. فذلك هو الامتلاك الحقيقي لها.. أما الجري وراء أطماعها التي لا تؤذن بالانتهاء, فذلك شر ألوان العبودية والرّق.
    هنالك يقول:
    " من لم يكن غنيا عن الدنيا, فلا دنيا له"..
    والمال عنده وسيلة للعيش القنوع المعتدل ليس غير.
    ومن ثم فان على الناس أن يأخذوه من حلال, وأن يكسبوه في رفق واعتدال, لا في جشع وتهالك.
    فهو يقول:
    " لا تأكل إلا طيّبا..
    ولا تكسب إلا طيّبا..
    ولا تدخل بيتك إلا طيّبا".
    ويكتب لصاحب له فيقول:
    ".. أما بعد, فلست في شيء من عرض الدنيا, وإلا وقد كان لغيرك قبلك.. وهو صائر لغيرك بعدك.. وليس لك منه إلا ما قدّمت لنفسك... فآثرها على من تجمع المال له من ولدك ليكون له إرثا, فأنت إنما تجمع لواحد من اثنين:
    إما ولد صالح يعمل فيه بطاعة الله, فيسعد بما شقيت به..
    وإما ولد عاص, يعمل فيه بمعصية الله, فتشقى بما جمعت له,
    فثق لهم بما عند الله من رزق, وانج بنفسك"..!

    كانت الدنيا كلها في عين أبي الدرداء مجرّد عارية..
    عندما فتحت قبرص وحملت غنائم الحرب إلى المدينة رأى الناس أبا الدرداء يبكي... واقتربوا دهشين يسألونه, وتولى توجيه السؤال إليه:" جبير بن نفير":

    قال له:
    " يا أبا الدرداء, ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله"..؟؟
    فأجاب أبو الدرداء في حكمة بالغة وفهم عميق:
    ويحك يا جبير..
    ما أهون الخلق على الله اذا هم تركوا أمره..
    بينما هي أمة, ظاهرة, قاهرة, لها الملك, تركت أمر الله, فصارت إلى ما ترى"..!

    أجل..

    وبهذا كان يعلل الانهيار السريع الذي تلحقه جيوش الإسلام بالبلاد المفتوحة, إفلاس تلك البلاد من روحانية صادقة تعصمها, ودين صحيح يصلها بالله..
    ومن هنا أيضا, كان يخشى على المسلمين أياما تنحلّ فيها عرى الإيمان, وتضعف روابطهم بالله, وبالحق, وبالصلاح, فتنتقل العارية من أيديهم, بنفس السهولة التي انتقلت بها من قبل إليهم..!!

    وكما كانت الدنيا بأسرها مجرّد عارية في يقينه, كذلك كانت جسرا إلى حياة أبقى وأروع..
    دخل عليه أصحابه يعودونه وهو مريض, فوجدوه نائما على فراش من جلد..
    فقالوا له:" لو شئت كان لك فراش أطيب وأنعم.."
    فأجابهم وهو يشير بسبّابته, وبريق عينيه صوب الأمام البعيد:
    " إن دارنا هناك..
    لها نجمع.. واليها نرجع..
    نظعن إليها. ونعمل لها"..!!
    وهذه النظرة إلى الدنيا ليست عند أبي الدرداء وجهة نظر فحسب بل ومنهج حياة كذلك..
    خطب يزيد بن معاوية ابنته الدرداء فردّه, ولم يقبل خطبته, ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم, فزوّجها أبو الدرداء منه.
    وعجب الناس لهذا التصرّف, فعلّمهم أبو الدرداء قائلا:
    " ما ظنّكم بالدرداء, اذا قام على رأسها الخدم وبهرها زخرف القصور..
    أين دينها منها يومئذ"..؟!
    هذا حكيم قويم النفس, ذكي الفؤاد..
    وهو يرفض من الدنيا ومن متاعها كل ما يشدّ النفس إليها, ويولّه القلب بها..
    وهو بهذا لا يهرب من السعادة بل إليها..
    فالسعادة الحقة عنده هي أن تمتلك الدنيا, لا أن تمتلكك أنت الدنيا..
    وكلما وقفت مطالب الناس في الحياة عند حدود القناعة والاعتدال وكلما أدركوا حقيقة الدنيا كجسر يعبرون عليه إلى دار القرار والمآل والخلود, كلما صنعوا هذا, كان نصيبهم من السعادة الحقة أوفى وأعظم..
    وانه ليقول:
    " ليس الخير أن يكثر مالك وولدك, ولكن الخير أن يعظم حلمك, ويكثر علمك, وأن تباري الناس في عبادة الله تعالى"..
    وفي خلافة عثمان رضي الله عنه, وكان معاوية أميرا على الشام نزل أبو الدرداء على رغبة الخليفة في أن يلي القضاء..
    وهناك في الشام وقف بالمرصاد لجميع الذين أغرّتهم مباهج الدنيا, وراح يذكّر بمنهج الرسول في حياته, وزهده, وبمنهج الرعيل الأول من الشهداء والصدّيقين..
    وكانت الشام يومئذ حاضرة تموج بالمباهج والنعيم..
    وكأن أهلها ضاقوا ذرعا بهذا الذي ينغصّ عليهم بمواعظه متاعهم ودنياهم..
    فجمعهم أبو الدرداء, وقام فيهم خطيبا:
    " يا أهل الشام..
    أنتم الإخوان في الدين, والجيران في الدار, والأنصار على الأعداء..
    ولكن مالي أراكم لا تستحيون..؟؟
    تجمعون ما لا تأكلون..
    وتبنون ما لا تسكنون..
    وترجون ما لا تبلّغون..
    وقد كانت القرون من قبلكم يجمعون, فيوعون..
    ويؤمّلون, فيطيلون..
    ويبنون, فيوثقون..
    فأصبح جمعهم بورا..
    وأماهم غرورا..
    وبيوتهم قبورا..
    أولئك قوم عاد, ملأوا ما بين عدن إلى عمان أموالا وأولادا..".
    ثم ارتسمت على شفتيه بسمة عريضة ساخرة, ولوّح بذراعه في الجمع الذاهل, وصاح في سخرية لا فحة:
    " من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين"..؟!

    رجل باهر, رائع, مضيء, حكمته مؤمنة, ومشاعره ورعة, ومنطقه سديد ورشيد..!!
    العبادة عند أبي الدرداء ليست غرورا ولا تأليا. إنما هي التماس للخير, وتعرّض لرحمة الله, وضراعة دائمة تذكّر الإنسان بضعفه. وبفضل ربه عليه:
    انه يقول:
    التمسوا الخير دهركم كله..
    وتعرّضوا لنفحات رحمة الله, فان لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده..
    " وسلوا الله أن يستر عوراتكم, ويؤمّن روعاتكم"...
    كان ذلك الحكيم مفتوح العينين دائما على غرور العبادة, يحذّر منه الناس.
    هذا الغرور الذي يصيب بعض الضعاف في إيمانهم حين يأخذهم الزهو بعبادتهم, فيتألّون بها على الآخرين ويدلّون..
    فلنستمع له ما يقول:
    " مثقال ذرّة من برّ صاحب تقوى ويقين, أرجح وأفضل من أمثال الجبال من عبادة النغترّين"..
    ويقول أيضا:
    "لا تكلفوا الناس ما لم يكلفوا..
    ولا تحاسبوهم دون ربهم
    عليكم أنفسكم, فان من تتبع ما يرى في الإنس يطل حزنه"..!
    انه لا يريد للعابد مهما يعل في العبادة شأوه أن يجرّد من نفسه ديّانا تجاه العبد.
    عليه أن يحمد الله على توفيقه, وأن يعاون بدعائه وبنبل مشاعره ونواياه أولئك الذين لم يدركوا مثل هذا التوفيق.
    هل تعرفون حكمة أنضر وأبهى من حكمة هذا الحكيم..؟؟
    يحدثنا صاحبه أبو قلابة فيقول:
    " مرّ أبو الدرداء يوما على رجل قد أصاب ذنبا, والناس يسبّونه, فنهاهم وقال: أرأيتم لو وجدتموه في حفرة.. ألم تكونوا مخرجيه منها..؟
    قالوا بلى..
    قال: فلا تسبّوه إذن, وحمدوا الله الذي عافاكم.
    قالوا: أنبغضه..؟
    قال: إنما أبغضوا عمله, فإذا تركه فهو أخي"..!!

    وإذا كان هذا أحد وجهي العبادة عند أبي الدرداء, فان وجهها الآخر هو العلم والمعرفة..
    إن أبا الدرداء يقدّس العلم تقديسا بعيدا.. يقدّسه كحكيم, ويقدّسه كعابد فيقول:
    " لا يكون أحدكم تقيا حتى يكون عالما..
    ولن يكون بالعلم جميلا, حتى يكون به عاملا".
    أجل..
    فالعلم عنده فهم, وسلوك.. معرفة, ومنهج.. فكرة حياة..
    ولأن تقديسه هذا تقديس رجل حكيم, نراه ينادي بأن العلم كالمتعلم كلاهما سواء في الفضل, والمكانة, والمثوبة..
    ويرى أن عظمة الحياة منوطة بالعلم الخيّر قبل أي شيء سواه..
    ها هو ذا يقول:
    " مالي أرى العلماء كم يذهبون, وجهّالكم لا يتعلمون؟؟ ألا إن معلّم الخير والمتعلّم في الأجر سواء.. ولا خير في سائر الناس بعدهما"..
    ويقول أيضا:
    " الناس ثلاثة..
    عالم..
    ومتعلم..
    والثالث همج لا خير فيه".

    وكما رأينا من قبل, لا ينفصل العلم في حكمة أبي الدرداء رضي الله عنه عن العمل.
    يقول:
    "إن أخشى ما أخشاه على نفسي أن يقال لي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: يا عويمر, هل علمت؟؟
    فأقول نعم..
    فيقال لي: فماذا عملت فيما علمت"..؟
    وكان يجلّ العلماء العاملين ويوقرهم توقيرا كبيرا, بل كان يدعو ربّه ويقول:
    " اللهم إني أعوذ بك أن تلعنني قلوب العلماء.."
    قيل له:
    وكيف تلعنك قلوبهم؟
    قال رضي الله عنه:
    " تكرهني"..!
    أرأيتم؟؟
    انه يرى في كراهيّة العالم لعنة لا يطيقها.. ومن ثمّ فهو يضرع إلى ربه أن يعيذه منها..

    وتستوصي حكمة أبي الدرداء بالإخاء خيرا, وتبنى علاقة الإنسان بالإنسان على أساس من واقع الطبيعة الإنسانية ذاتها فيقول:
    " معاتبة الأخ خير لك من فقده, ومن لك بأخيك كله..؟
    أعط أخاك ولن له..
    ولا تطع فيه حاسدا, فتكون مثله.
    غدا يأتيك الموت, فيكفيك فقده..
    وكيف تبكيه بعد الموت, وفي الحياة ما كنت أديت حقه"..؟؟
    ومراقبة الله في عباده قاعدة صلبة يبني عليها أبو الدرداء حقوق الإخاء..
    يقول رضي الله عنه وأرضاه:
    " إني أبغض أن أظلم أحدا.. ولكني أبغض أكثر وأكثر, أن أظلم من لا يستعين عليّ إلا بالله العليّ الكبير"..!!
    يل لعظمة نفسك, وإشراق روحك يا أبا الدرداء..!!
    انه يحذّر الناس من خداع الوهم, حين يظنون أن المستضعفين العزّل أقرب منالا من أيديهم, ومن بأسهم..!
    ويذكّرهم أن هؤلاء في ضعفهم يملكون قوّة ماحقة حين يتوسلون إلى الله عز وجل بعجزهم, ويطرحون بين يديه قضيتهم, وهو أنهم على الناس..!!
    هذا هو أبو الدرداء الحكيم..!
    هذا هو أبو الدرداء الزاهد, العابد, الأوّاب..
    هذا هو أبو الدرداء الذي كان اذا أطرى الناس تقاه, وسألوه الدعاء, أجابهم في تواضع وثيق قائلا:
    " لا أحسن السباحة.. وأخاف الغرق"..!!

    كل هذا, ولا تحسن السباحة يا أبا الدرداء..؟؟
    ولكن أي عجب, وأنت تربية الرسول عليه الصلاة والسلام... وتلميذ القرآن.. وابن الإسلام الأوّل وصاحب أبي بكر وعمر, وبقيّة الرجال..!؟

  8. #18
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    عمّار بن ياسر ( رجل من الجنة..!! )

    لو كان هناك أناس يولدون في الجنة, ثم يشيبون في رحابها ويكبرون..
    ثم يُجاء بهم إلى الأرض ليكون زينة لها, ونورا, لكان عمّار, وأمه سميّة, وأبوه ياسر من هؤلاء..!!
    ولكن لماذا نقول: لو.. لماذا مفترض هذا الافتراض, وقد كان آل ياسر فعلا من أهل الجنة..؟؟
    وما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مواسيا لهم فحسب حين قال:
    " صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة"..
    بل كان يقرر حقيقة يعرفها ويؤكد واقعا يبصره ويراه..

    خرج ياسر والد عمّار, من بلده في اليمن يطلب أخا له, ويبحث عنه..
    وفي مكة طاب له المقام, فاستوطنها محالفا أبا حذيفة بن المغيرة..
    وزوّجه أبو حذيفة إحدى إمائه سميّة بنت خياط..
    ومن هذا الزواج المبارك رزق الله الأبوين عمارا..
    وكان إسلامهم مبكرا.. شأن الأبرار الذين هداهم الله..
    وشأن الأبرار المبكّرين أيضا, أخذوا نصيبهم الأوفى من عذاب قريش وأهوالها..!!
    ولقد كانت قريش تتربّص بالمؤمنين الدوائر..
    فان كانوا ممن لهم في قومهم شرف ومنعة, تولوهم بالوعيد والتهديد, ويلقى أبو جهل المؤمن منهم فيقول له:" تركت دين آبائك وهم خير منك.. لنسفّهنّ حلمك, ولنضعنّ شرفك, ولنكسدنّ تجارتك, ولنهلكنّ مالك" ثم يشنون عليه حرب عصبية حامية.
    وإن كان المؤمن من ضعفاء مكة وفقرائها, أو عبيدها, أصلتهم سعيرا.
    ولقد كان آل ياسر من هذا الفريق..
    ووكل أمر تعذيبهم إلى بني مخزوم, يخرجون بهم جميعا.. ياسر, سمية وعمار كل يوم إلى رمضاء مكة الملتهبة, ويصبّون عليهم جحيم العذاب ألوانا وفنونا!!

    ولقد كان نصيب سمية من ذلك العذاب فادحا رهيبا. ولن نفيض في الحديث عنها الآن.. فلنا إن شاء الله مع جلال تضحيتها, وعظمة ثباتها لقاء نتحدث عنها وعن نظيراتها وأخواتها في تلك الأيام الخالدات..
    وليكن حسبنا الآن أن نذكر في غير كبالغة أن سمية الشهيدة وقفت يوم ذاك موقفا يمنح البشرية كلها من أول إلى آخرها شرفا لا ينفد, وكرامة لا ينصل بهاؤها..!
    موقفا جعل منها أمّا عظيمة للمؤمنين في كل العصور.. وللشرفاء في كل الأزمان..!!

    كان الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج إلى حيث علم أن آل ياسر يعذبون..
    ولم يكن آنذاك يملك من أسباب المقاومة ودفع الأذى شيئا..
    وكانت تلك مشيئة الله..
    فالدين الجديد, ملة إبراهيم حنيفا, الدين الذي يرفع محمد لواءه ليس حركة إصلاح عارضة عابرة.. وإنما هو نهج حياة للبشرية المؤمنة.. ولا بد للبشرية المؤمنة هذه أن ترث مع الدين تاريخه بكل تاريخه بكل بطولاته, وتضحياته ومخاطراته...
    إن هذه التضحيات النبيلة الهائلة, هي الخرسانة التي تهب الدين والعقيدة ثباتا لا يزول, وخلودا لا يبلى..!!!

    إنها العبير يملأ أفئدة المؤمنين ولاء, وغبطة وحبورا.
    وإنها المنار الذي يهدي الأجيال الوافدة إلى حقيقة الدين, وصدقه وعظمته..
    وهكذا لم يكن هناك بد من أن يكون للإسلام تضحياته وضحاياه, ولقد أضاء القرآن الكريم هذا المعنى للمسلمين في أكثر من آية...
    فهو يقول:
    (أحسب الناس أن يتركوا, أن يقولوا آمنّا, وهم لا يفتنون)؟!
    (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة, ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم, ويعلم الصابرين)؟
    (ولقد فتنّا الذين من قبلهم, فليعلمنّ الله الذين صدقوا, وليعلمنّ الكاذبين).
    (أم حسبتم أن تتركوا, ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم..)
    (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيّب)..
    (وما أصابكم يوم التقى الجمعان, فبإذن الله, وليعلم المؤمنين).

    أجل هكذا علم القرآن حملته وأبناءه, أن التضحية جوهر الإيمان, وأن مقاومة التحديّات الغاشمة الظالمة بالثبات وبالصبر وبالإصرار.. إنما تشكّل أبهى فضائل الإيمان وأروعها..
    ومن ثمّ فان دين الله هذا وهو يضع قواعده, ويرسي دعائمه, ويعطي مثله, لا بد له أن يدعم وجوده بالتضحية, ويزكّي نفسه بالفداء, مختارا لهذه المهمة الجليلة نفرا من أبنائه وأوليائه وأبراره يكنون قدوة سامقة ومثلا عاليا للمؤمنين القادمين.
    ولقد كانت سميّة.. وكان ياسر.. وكان عمّار من هذه الثلة المباركة العظيمة التي اختارتها مقادير الإسلام لتصوغ من تضحياتها وثباتها وإصراراها وثيقة عظمته وخلوده..

    قلنا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج كل يوم إلى أسرة ياسر, محيّيا صمودها, وبطولتها.. وكان قلبه الكبير يذوب رحمة وحنانا لمشهدهم وهم يتلقون العذاب ما لا طاقة لهم به.
    وذات يوم وهو يعودهم ناداه عمّار:
    " يا رسول الله.. لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ"..
    فناداه الرسول: صبرا أبا اليقظان..
    صبرا آل ياسر..
    فإن موعدكم الجنة"..
    ولقد وصف أصاب عمّار العذاب الذي نزل به في أحاديث كثيرة.
    فيقول عمرو بن الحكم:
    " كان عمّار يعذب حتى لا يدري ما يقول".
    ويقول عمرو بن ميمون:
    " أحرق المشركون عمّار بن ياسر بالنار, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به, ويمر يده على رأسه ويقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمّار, كما كنت بردا وسلاما على إبراهيم"..
    على أن ذلك لهول كله لم يكن ليفدح روح عمار, وان فدح ظهره ودغدغ قواه..
    ولم يشعر عمار بالهلاك حقا, إلا في ذلك اليوم الذي استنجد فيه جلادوه بكل عبقريتهم في الجريمة والبغي.. فمن الكي بالنار, إلى صلبه على الرمضاء المستعرة تحت الحجارة الملتهبة.. إلى غطّه في الماء حتى تختنق أنفسه, وتتسلخ قروحه وجروحه..
    في ذلك اليوم إذ فقد وعيه تحت وطأة هذا العذاب فقالوا له: اذكر آلهتنا بخير, وأخذوا يقولون له, وهو يردد وراءهم القول في غير شعور.
    في ذلك اليوم, وبعد أن أفاق قليلا من غيبوبة تعذيبه, تذكّر ما قاله فطار صوابه, وتجسمت هذه الهفوة أما نفسه حتى رآها خطيئة لا مغفرة لها ولا كفارة.. وفي لحظات معدودات, أوقع به الشعور بالإثم من العذاب ما أضحى عذاب المشركين تجاهه بلسما ونعيما..!!

    ولو ترك عمّار لمشاعره تلك بضع ساعات لقضت عليه لا محالة..
    لقد كان يحتمل الهول المنصّب على جسده, لأن روحه هناك شامخة.. أما الآن وهو يظن أن الهزيمة أدركت روحه فقد أشرفت به همومه وجزعه على الموت والهلاك..
    لكن الله العليّ القدير أراد للمشهد المثير أن يبلغ جلال ختامه..
    وبسط الوحي يمينه المباركة مصافحا بها عمّارا, وهاتفا به: انهض أيها البطل.. لا تثريب عليك ولا حرج..
    ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه فألفاه يبكي, فجعل يمسح دموعه بيده, ويقول له:
    " أخذك الكفار, فغطوك في الماء, فقلت كذا.. وكذا..؟؟"
    أجاب عمّار وهو ينتحب: نعم يا رسول الله...
    فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم:" إن عادوا, فقل لهم مثل قولك هذا"..!!
    ثم تلا عليه الآية الكريمة:
    ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)..
    واستردّ عمّار سكينة نفسه, ولم يعد يجد للعذاب المنقض على جسده ألما, ولم يعد يلقي له وبالا..
    لقد ربح روحه, وربح إيمانه.. ولقد ضمن القرآن له هذه الصفقة المباركة, فليكن بعدئذ ما يكون..!!
    وصمد عمّار حتى حل الإعياء بجلاديه, وارتدّوا أمام إصراره صاغرين..!!

    استقرّ المسلمون بالمدينة بعد هجرة رسولهم إليها, وأخذ المجتمع الإسلامي هناك يتشكّل سريعا, ويستكمل نفسه..
    ووسط هذه الجماعة المسلمة المؤمنة,أخذ عمار مكانه عليّا..!!
    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا حمّا, ويباهي أصحابه بإيمانه وهديه..
    يقول عنه صلى الله عليه وسلم:
    : إن عمّارا ملئ إيمانا إلى مشاشه".
    وحين وقع سوء تفاهم بين عمار وخالد بن الوليد, قال رسول الله:" من عادى عمارا, عاداه الله, ومن أبغض عمارا أبغضه الله"
    ولم يكن أمام خالد بن الوليد بطل الإسلام إلا أن يسارع إلى عمار معتذرا إليه, وطامعا في صفحه الجميل..!!
    وحين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة اثر نزولهم بها, ارتجز الإمام علي كرّم الله وجهه أنشودة راح يرددها ويرددها المسلمون معه, فيقولون:
    لا يستوي من يعمر المساجدا
    يدأب فيها قائما وقاعدا
    ومن يرى عن الغبار حائدا

    وكان عمار يعمل من ناحية المسجد فأخذ يردد الأنشودة ويرفع بها صوته.. وظن أحد أصحابه أن عمارا يعرض به, فغاضبه ببعض القول فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
    " ما لهم ولعمّار..؟
    يدعوهم إلى الجنة, ويدعونه إلى النار..
    إن عمّارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي"...

    وإذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما إلى هذا الحد, فلا بد أن يكون إيمانه, وبلاؤه, وولاؤه, وعظمة نفسه, واستقامة ضميره ونهجه.. قد بلغت المدى, وانتهت إلى ذروة الكمال الميسور..!!
    وكذلكم كان عمار..
    لقد كال الله له نعمته وهداه بالمكيال الأوفى, وبلف في درجات الهدى واليقين ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يزكّي إيمانه, ويرفعه بين أصحابه قدوة ومثلا فيقول:
    " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر... واهتدوا بهدي عمّار"..
    ولقد وصفه الرواة فقالوا:
    " كان طوّالا, أشهل, رحب ما بين المنكبين.. من أطول الناس سكوتا, وأقلهم كلاما"..
    فكيف سارت حياة هذا العملاق, الصامت الأشهل, العريض الصدر, الذي يحمل جسده آثار تعذيبه المروّع, كما يحمل في نفس الوقت وثيقة صموده الهائل, والمذهل وعظمته الخارقة..؟!
    كيف سارت حياة هذا الحواري المخلص, والمؤمن الصادق, والفدائي الباهر..؟؟
    لقد شهد مع معلّمه ورسوله جميع المشاهد.. بدرا, وأحدا, والخندق وتبوك.. وبقيّتها جميعا.
    ولما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى, واصل العملاق زحفه..
    ففي لقاء المسلمين مع الفرس, ومع الروم, ومن قبل ذلك في لقائهم مع جيوش الردّة الجرّارة كان عمّار هناك في الصفوف الأولى دوما.. جنديا باسلا أمينا, لا تنبو لسيفه ضربة.. ومؤمنا ورعا جليلا, لا تأخذه عن الله رغبة..
    وحين كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يختار ولاة المسلمين في دقة وتحفّظ من يختار مصيره, كانت عيناه تقعان دوما في ثقة أكيدة على عمّار بن ياسر"..
    وهكذا سارع إليه وولاه الكوفة, وجعل ابن مسعود معه على بيت المال..

    وكتب إلى أهلها كتابا يبشرهم فيه بواليهم الجديد, فقال:
    " إني بعثت إليكم عمّار بن ياسر أميرا.. وابن مسعود معلما ووزيرا..
    وإنهما من النجباء, من أصحاب محمد, ومن أهل بدر"..

    ولقد سار عمّار في ولايته سيرا شق على الطامعين في الدنيا تحمّله حتى تألبوا عليه أو كادوا..
    لقد زادته الولاية تواضعا وورعا وزهدا..
    يقول ابن أبي الهذيل, وهو من معاصريه في الكوفة:
    " رأيت عمّار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها, ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره, ويمضي بها إلى داره"..!!

    ويقول له واحد من العامّة وهو أمير الكوفة:" يا أجدع الأذن يعيّره بأذنه التي قطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة.. فلا يزيد الأمير الذي بيده السلطة على أن يقول لشاتمه:
    " خير أذنيّ سببت.. لقد أصيبت في سبيل الله"..!!
    أجل لقد أصيب في سبيل الله في يوم اليمامة, وكان يوما من أيام عمّار المجيدة.. اذا انطلق العملاق في استبسال عاصف يحصد في جيش مسيلمة الكذاب, ويهدي إليه المنايا والدمار..
    وإذا يرى في المسلمين فتورا يرسل بين صفوفهم صياحه المزلزل, فيندفعون كالسهام المقذوفة.
    يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما:
    " رأيت عمّار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة, وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين.. أمن الجنة تفرّون..؟ أنا عمّار بن ياسر, هلموا إلي.. فنظرت إليه, فإذا أذنه مقطوعة تتأرجح, وهو يقاتل أشد القتال"..!!!

    ألا من كان في شك من عظمة محمد الرسول الصادق, والمعلم الكامل, فليقف أمام هذه النماذج من أتباعه وأصحابه, وليسأل نفسه: هل يقدر على إنجاب هذا الطراز الرفيع سوى رسول كريم, ومعلم عظيم؟؟

    اذا خاضوا في سبيل الله قتالا اندفعوا اندفاع من يبحث عن المنيّة, لا عن النصر..!!
    وإذا كانوا خلفاء وحكّاما, ذهب الخليفة يحلب شياه الأيامى, ويعجن خبز اليتامى.. كما فعل أبو بكر وعمر..!!
    وإذا كانوا ولاة حملوا طعامهم على ظهورهم مربوطا بحبل.. كما فعل عمّار.. أو تنازلوا عن راتبهم وجلسوا يصنعون من الخوص المجدول أوعية ومكاتل, كما صنع سلمان..!!
    ألا فلنحن الجباه تحيّة وإجلالا للدين الذي أنجبهم, وللرسول الذي ربّاهم.. وقبل الدين والرسول, الله العليّ الكبير الذي اجتباهم لهذا كله..
    وهداهم لهذا كله.. وجعلهم روّادا لخير أمة أخرجت للناس..!!

    كان الحذيفة بن اليمان, الخبير بلغة السرائر والقلوب يتهيأ للقاء الله, ويعالج سكرات الموت حين سأله أصحابه الحافون حوله قائلين له" بمن تأمرنا, اذا اختلف الناس"..؟
    فأجابهم حذيفة, وهو يلقي بآخر كلماته:
    " عليكم بابن سميّة.. فانه لن يفارق الحق حتى يموت"..
    أجل إن عمارا ليدور مع الحق حيث يدور.. والآن نحن نقفو آثاره المباركة, ونتتبع معالم حياته العظيمة, تعلوْا نقترب من مشهد عظيم..
    ولكن قبل أن نواجه هذا المشهد في روعته وجلاله, في صولته وكماله, في تفانيه وإصراره, في تفوقه واقتداره, تعالْوا نبصر مشهد مشهدا يسبق هذا المشهد, ويتنبأ به, ويهيئ له...

    كان ذلك اثر استقرار المسلمين في المدينة, وقد نهض الرسول الأمين وحوله الصحابة الأبرار, شعثا لربهم وغبرا, بنون بيته, ويقيمون مسجده.. قد امتلأت أفئدتهم المؤمنة غبطة, وتألقت بشرا, وابتهلت حمدا لربها وشكرا..
    الجميع يعملون في خبور وأمل.. يحملون الحجارة, أو يعجنون الملاط.. أو يقيمون البناء..
    فوج هنا وفوج هناك..
    والأفق السعيد يردد تغريدهم الذي يرفعون به أصواتهم المحبورة:
    لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
    هكذا يغنون وينشدون..
    ثم تتعالى أصواتهم الصادحة بتغريدة أخرى:
    اللهم إن العيش عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة
    وتغريدة ثالثة:
    لا يستوي من يعمّر مسجدا
    يدأب فيها قائما وقاعدا
    ومن يرى الغبار عنه حائدا

    أنها خلايا لله تعمل.. إنهم جنوده, يحملون لواءه, ويرفعون بناءه..
    ورسوله الطيّب الأمين معهم, يحمل من الحجارة أعتاها, ويمارس من العمل أشقه.. وأصواتهم المغرّدة تحكي غبطة أنفسهم الراضية المخبتة..
    والسماء من فوقهم تغبط الأرض التي تحملهم فوق ظهرها.. والحياة المتهللة تشهد أبهى أعيادها..!!
    وعمار بن ياسر هناك وسط المهرجان الحافل يحمل الحجارة الثقيلة من منحتها إلى مستقرّها...

    ويبصره الرحمة المهداة محمد رسول الله, فيأخذه إليه حنان عظيم, ويقترب منه وينفض بيده البارّة الغبار الذي كسا رأسه, ويتأمّل وجهه الوديع المؤمن بنظرات ملؤها نور الله, ثم يقول على ملأ من أصحابه جميعا:
    " ويح ابن سميّة..!! تقتله الفئة الباغية"...

    وتتكرر النبوءة مرّة أخرى حين يسقط جدار كان يعمل تحته, فيظن بعض إخوانه أنه قد مات, فيذهب ينعاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويفزّع الأصحاب من وقع النبأ.. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في طمأنينة وثقة:
    " ما مات عمّار تقتله الفئة الباغية"..
    فمن تكون هذه الفئة يا ترى..؟؟
    ومتى..؟ وأي..؟
    لقد أصغى عمّار للنبوءة إصغاء من يعرف صدق البصيرة التي يحملها رسوله العظيم..
    ولكنه لم يروّع.. فهو منذ أسلم, وهو مرشّح للموت والشهادة في كل لحظة من ليل أو نهار...
    ومضت الأيام.. والأعوام..
    ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.. ثم لحق به إلى رضوان الله أبو بكر.. ثم لحق بهما إلى رضوان الله عمر..
    وولي الخلافة ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه..
    وكانت المؤامرات ضدّ الإسلام تعمل عملها المستميت, وتحاول أن تربح بالغدر وإثارة الفتن ما خسرته في الحرب..
    وكان مقتل عمر أول نجاح أحرزته هذه المؤامرات التي أخذت تهبّ على المدينة كريح السموم من تلك البلاد التي دمّر الإسلام ملكها وعروشها..
    وأغراها استشهاد عمر على مواصلة مساعيها, فألّبت الفتن وأيقظتها في معظم بلاد الإسلام..
    ولعل عثمان رضي الله عنه, لم يعط الأمور ما تستحقه من الاهتمام والحذر, فوقعت الواقعة واستشهد عثمان رضي الله عنه, وانفتحت على المسلمين أبواب الفتنة.. وقام معاوية ينازع الخليفة الجديد عليّا كرّم الله وجهه حقه في الأمر, وفي الخلافة...

    وتعددت اتجاهات الصحابة.. فمنهم من نفض يديه من الخلاف وأوى إلى بيته, جاعلا شعاره كلمة ابن عمر:
    " من قال حيّ على الصلاة أجبته...
    ومن قال حيّ على الفلاح أجبته..
    ومن قال حيّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله, قلت: لا؟..
    ومنهم من انحاز إلى معاوية..
    ومنهم من وقف إلى جوار عليّ صاحب البيعة, وخليفة المسلمين..
    ترى أين يقف اليوم عمّار؟؟
    أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    " واهتدوا بهدي عمّار"..؟
    أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    " من عادى عمّارا عاداه الله"..؟
    والذي كان اذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته يقترب من منزله قال:
    " مرحبا بالطيّب المقدام, ائذنوا له"..!!

    لقد وقف إلى جوار عليّ ابن أبي طالب, لا متحيّزا ولا متعصبا, بل مذعنا للحق, وحافظا للعهد..
    فعليّ خليفة المسلمين, وصاحب البيعة بالإمامة.. ولقد أخذ الخلافة وهو لها أهل وبها جدير..
    وعليّ قبل هذا وبعد هذا, صاحب المزايا التي جعلت منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى..
    إن عمارا الذي يدور مع الحق حيث دار, ليهتدي بنور بصيرته وإخلاصه إلى صاحب الحق الأوحد في النزاع.. ولم يكن صاحب الحق يومئذ في يقينه سوى عليّ, فأخذ مكانه إلى جواره..
    وفرح علي رضي الله عنه بنصرته فرحا لعله لم يفرح يومئذ مثله وازداد إيمانا بأنه على الحق ما دام رجل الحق العظيم عمّار قد أقبل عليه وسار معه..

    وجاء يوم صفين الرهيب.
    وخرج الإمام علي يواجه العمل الخطير الذي اعتبره تمرّدا يحمل هو مسؤولية قمعه.
    وخرج معه عمار..
    كان عمار قد بلغ من العمر يومئذ ثلاثة وتسعين..
    ثلاث وتسعون عاما ويخرج للقتال..؟
    أجل ما دام يتعقد أن القتال مسؤوليته وواجبه.. ولقد قاتل أشدّ وأروع مما يقاتل أبناء الثلاثين...!!
    كان الرجل الدائم الصمت, القليل الكلام, لا يكاد يحرّك شفتيه حين يحرّكهما إلا بهذه الضراعة:
    " عائذ بالله من فتنة...
    عائذ بالله من فتنة..".
    وبعيد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظلت هذه الكلمات ابتهاله الدائم..
    وكلما كانت الأيام تمر, كان هو يكثر من لهجه وتعوّذه.. كأنما كان قلبه الصافي يحسّ الخطر الداهم كلما اقتربت أيامه..
    وحين وقع الخطر ونشبت الفتنة, كان ابن سميّة. يعرف مكانه فوقف يوم صفين حاملا سيفه وهو ابن الثالثة والتسعين كما قلنا ليناصر به حقا من يؤمن بوجوب مناصرته..
    ولقد أعلن وجهة نظره في هذا القتال قائلا:

    " أيها الناس:
    سيروا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يثأرون لعثمان, ووالله ما قصدهم الأخذ بثأره, ولكنهم ذاقوا الدنيا, واستمرءوها, وعلموا أن الحق يحول بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من شهواتهم ودنياهم..
    وما كان لهؤلاء سابقة في الإسلام يستحقون بها طاعة المسلمين لهم, ولا الولاية عليهم, ولا عرفت قلوبهم من خشية الله ما يحملهم على إتباع الحق...
    وإنهم ليخادعون الناس بزعمهم أنهم يثأرون لدم عثمان.. وما يريدون إلا أن يكونوا جبابرة وملوكا؟...
    ثم أخذ الراية بيده, ورفعها فوق الرؤوس عالية خافقة, وصاح في الناس قائلا:
    " والذي نفسي بيده.. لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهأنذا أقاتل بها اليوم..
    والذي نفسي بيده. لو هزمونا حتى يبلغوا سعفات هجر, لعلمت أننا على الحق, وأنهم على الباطل"..
    ولقد تبع الناس عمارا, وآمنوا بصدق كلماته..
    يقول أبو عبدالرحمن السلمي:
    " شهدنا مع عليّ رضي الله عنه صفين, فرأيت عمار ابن ياسر رضي اله عنه لا يأخذ في ناحية من نواحيها, ولا واد من أوديتها, إلا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه كأنه علم لهم"..!!
    كان عمّار وهو يجول في المعركة ويصول, يؤمن أنه واحد من شهدائها..
    وقد كانت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتلق أمام عينيه بحروف كبيرة:
    " تقتل عمّار الفئة الباغية"..
    من أجل هذا كان صوته يجلجل في أفق المعركة بهذه التغريدة:
    "اليوم ألقى الأحبة محمدا وصحبه"..!!

    ثم يندفع كقذيفة عاتية صوب مكان معاوية ومن حوله الأمويين ويرسل صياحا عاليا مدمدما:
    لقد ضربنــــاكم على تنزيله
    واليوم نضربكم على تأويله
    ضربا يزيل الهام عن مقليه
    ويذهل الخليــــل عن خليله
    أو يرجع الحق إلى سبيــله
    وهو يعني بهذا أن أصحاب الرسول السابقين, وعمارا منهم قاتلوا الأمويين بالأمس وعلى رأسهم أبو سفيان الذي كان يحمل لواء الشرك, ويقود جيوش المشركين..
    قاتلوهم بالأمس, وكان القرآن الكريم يأمرهم صراحة بقتالهم لأنهم مشركون..
    أما اليوم, وإن يكونوا قد أسلموا, وان يكن القرآن الكريم لا يأمرهم صراحة بقتالهم, إلا أن اجتهاد عمار رضي الله عنه في بحثه عن الحق, وفهمه لغايات القرآن ومراميه يقنعانه بقتالهم حتى يعود الحق المغتصب إلى ذويه, وحتى تنطفئ إلى الأبد نار التمرّد والفتنة..
    ويعني كذلك, أنهم بالأمس قاتلوا الأمويين لكفرهم بالدين والقرآن..

    واليوم يقاتلون الأمويين لانحرافهم بالدين, وزيغهم عن القرآن الكريم وإساءتهم تأويله وتفسيره, ومحاولتهم تطويع آياته ومراميه لأغراضهم وأطماعهم..!!

    كان ابن الثالثة والتسعين, يخوض آخر معارك حياته المستبسلة الشامخة.. كان يلقن الحياة قبل أن يرحل عنها آخر دروسه في الثبات على الحق, ويترك لها آخر مواقفه العظيمة, الشريفة المعلمة..
    ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا عمّار ما استطاعوا, حتى لا تقتله سيفهم فيتبيّن للناس أنهم الفئة الباغية..
    بيد أن شجاعة عمار الذي كان يقتل وكأنه جيش واحد, أفقدتهم صوابهم, فأخذ بعض جنود معاوية يتحيّنون الفرصة لأصابته, حتى اذا تمكّنوا منه أصابوه...

    كان جيش معاوية ينتظم من كثيرين من المسلمين الجدد.. الذين أسلموا على قرع طبول الفتح الإسلامي في البلاد الكثيرة التي حررها الإسلام من سيطرة الروم والفرس.. وكان أكثر هؤلاء وقود الحرب التي سببها تمرّد معاوية ونكوصه على بيعة علي.. الخليفة, والإمام, كانوا وقودها وزيتها الذي يزيدها اشتعالا..
    وهذا الخلاف على خطورته, كان يمكن أن ينتهي بسلام لو ظلت الأمور بأيدي المسلمين الأوائل.. ولكنه لم يكد يتخذ أشكاله الحادة حتى تناولته أيد كثيرة لا يهمها مصير الإسلام, وذهبت تذكي النار وتزيدها ضراما..
    شاع في الغداة خبر مقتل عمار وذهب المسلمون يتناقل بعضهم عن بعض نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سمعها أصحابه جميعا ذات يوم بعيد, وهم يبنون المسجد بالمدينة..
    " ويح ابن سمية, تقتله الفئة الباغية".
    وعرف الناس الآن من تكون الفئة الباغية.. إنها الفئة التي قتلت عمّارا.. وما قتله إلا فئة معاوية..

    وازداد أصحاب عليّ بهذا إيمانا..
    أما فريق معاوية, فقد بدأ الشك يغز قلوبهم, وتهيأ بعضهم للتمرد, والانضمام إلى عليّ..
    ولم يكد معاوية يسمع بما حدث. حتى خرج يذيع في الناس أن هذه النبوءة حق , وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ حقا بأن عمّارا ستقتله الفئة الباغية.. ولكن من الذي قتل عمّارا...؟ ثم صاح في الناس الذين معه قائلا:
    " إنما قتله الذين خرجوا به من داره, وجاءوا به إلى القتال"..
    وانخدع بعض الذين في قلوبهم هوى بهذا التأويل المتهالك, واستأنفت المعركة سيرها إلى ميقاتها المعلوم...

    أمّا عمّار, فقد حمله الإمام علي فوق صدره إلى حيث صلى عليه والمسلمون معه.. ثم دفنه في ثيابه..
    أجل في ثيابه المضمّخة بدمه الزكي الطهور.. فما في كل حرير الدنيا وديباجها ما يصلح أن يكون كفنا لشهيد جليل, وقدّيس عظيم من طراز عمّار...

    ووقف المسلمون على قبره يعجبون..
    منذ ساعات كان عمّار يغرّد بينهم فوق أرض المعركة.. تملأ نفسه غبطة الغريب المضني يزف إلى وطنه, وهو يصيح:
    " اليوم ألقى الأحبة, محمدا وصحبة"..!!
    أكان معهم اليوم على موعد يعرفه, وميقات ينتظره...؟؟!!
    وأقبل بعض الأصحاب على بعضهم يتساءلون...
    قال أحدهم لصاحبه: أتذكر أصيل ذلك اليوم بالمدينة ونحن جالسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وفجأة تهلل وجهه وقال:
    " اشتاقت الجنة لعمّار"..؟؟
    قال له صاحبه نعم, ولقد ذكر يومها آخرين منهم علي وسلمان وبلال..
    إذن فالجنة كانت مشتاقة لعمّار..
    وإذن, فقد طال شوقها إليه, وهو يستمهلها حتى يؤدي كل تبعاته, وينجز آخر واجباته..
    ولقد أدّاها في ذمّة, وأنجزها في غبطة..
    أفما آن له أن يلبي نداء الشوق الذي يهتف به من رحاب الجنان..؟؟
    بلى آن له أن يبلي النداء.. فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.. وهكذا ألقى رمحه ومضى..

    وحين كان تراب قبره يسوّى بيد أصحابه فوق جثمانه, كانت روحه تعانق مصيرها السعيد هناك.. في جنات الخلق, التي طال شوقها لعمّار...!

  9. #19
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    جعفر بن أبي طالب ( أشبهت خلقي وخلقي )

    انظروا جلال شبابه..
    انظروا نضارة إهابه..
    انظروا أناته وحلمه, حدبه, وبرّه, تواضعه وتقاه..
    انظروا شجاعته التي لا تعرف الخوف.. وجوده الذي لايخاف الفقر..
    انظروا طهره وعفته..
    انظروا صدقه وأمانته...
    انظروا فيه كل رائعة من روائع الحسن, والفضيلة, والعظمة, ثم لا تعجبوا, فأنتم أمام أشبه الناس بالرسول خلقا, وخلقا..
    أنتم أمام من كنّاه الرسول بـأبي المساكين..
    أنت تجاه من لقبه الرسول بـذي الجناحين..
    أنتم تلقاء طائر الجنة الغريد, جعفر بن أبي طالب..!! عظيم من عظماء الرعيل الأول الذين أسهموا أعظم إسهام في صوغ ضمير الحياة..!!

    أقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم مسلما, آخذا مكانه العالي بين المؤمنين المبكرين..
    وأسلمت معه في نفس اليوم زوجته أسماء بنت عميس..
    وحملا نصيبهما من الأذى ومن الاضطهاد في شجاعة وغبطة..
    فلما اختار الرسول لأصحابه الهجرة إلى الحبشة, خرج جعفر وزوجه حيث لبيا بها سنين عددا, رزقا خلالها بأولادهم الثلاثة محمد, وعبد الله, وعوف...

    وفي الحبشة كان جعفر بن أبي طالب المتحدث اللبق, الموفق باسم الإسلام ورسوله..
    ذلك أن الله أنعم عليه فيما أنعم, بذكاء القلب, وإشراق العقل, وفطنة النفس, وفصاحة اللسان..
    ولئن كان يوم مؤتة الذي سيقاتل فيه فيما بعد حتى يستشهد.. أروع أيامه وأمجاده وأخلدها..
    فإن يوم المحاورة التي أجراها أمام النجاشي بالحبشة, لن يقلّ روعة ولا بهاء, ولا مجدا..
    لقد كان يوما فذّا, ومشهدا عجبا...

    وذلك أن قريشا لم يهدئ من ثورتها, ولم يذهب من غيظها, هجرة المسلمين إلى الحبشة, بل خشيت أن يقوى هناك بأسهم, ويتكاثر طمعهم.. وحتى إذا لم تواتهم فرصة التكاثر والقوّة, فقد عز على كبريائها أن ينجو هؤلاء من نقمتها, ويفلتوا من قبضتها.. يظلوا هناك في مهاجرهم أملا رحبا تهتز له نفس الرسول, وينشرح له صدر الإسلام..

    هنالك قرر ساداتها إرسال مبعوثين إلى النجاشي يحملان هدايا قريش النفيسة, ويحملان رجاءهما في أن يخرج هؤلاء الذين جاؤوا إليها لائذين ومستجيرين...
    وكان هذان المبعوثان: عبدالله بن أبي ربيعة, وعمرو بن العاص, وكانا لم يسلما بعد...

    كان النجاشي الذي كان يجلس أيامئذ على عرش الحبشة, رجلا يحمل إيمانا مستنيرا.. وكان في قرارة نفسه يعتنق مسيحية صافية واعية, بعيدة عن الانحراف, نائية عن التعصب والانغلاق...
    وكان ذكره يسبقه.. وسيرته العادلة, تنشر عبيرها في كل مكان تبلغه..
    من أجل هذا, اختار الرسول صلى الله عليه وسلم بلاده دار هجرة لأصحابه..
    ومن أجل هذا, خافت قريش ألا تبلغ لديه ما تريد فحمّلت مبعوثيها هدايا ضخمة للأساقفة, وكبار رجال الكنيسة هناك, وأوصى زعماء قريش مبعوثيهاألا يقابلا النجاشي حتى يعطيا الهدايا للبطارقة أولا, وحتى يقنعاهم بوجهة نظرهما, ليكونوا لهم عونا عند النجاشي.
    وحطّ الرسولان رحالهما بالحبشة, وقابلا بها الزعماء الروحانيين كافة, ونثرا بين أيديهم الهدايا التي حملاها إليهم.. ثم أرسلا للنجاشي هداياه..
    ومضيا يوغران صدور القسس والأساقفة ضد المسلمين المهاجرين, ويستنجدان بهم لحمل النجاشي, ويواجهان بين يديه خصوم قريش الذين تلاحقهم بكيدها وأذاها.

    وفي وقار مهيب, وتواضع جليل, جلس النجاشي على كرسيه العالي, تحفّ به الأساقفة ورجال الحاشية, وجلس أمامه في البهو الفسيح, المسلمون المهاجرون, تغشاهم سكينة الله, وتظلهم رحمته.. ووقف مبعوثا قريش يكرران الاتهام الذي سبق أن ردّداه أمام النجاشي حين أذن لهم بمقابلة خاصة قبل هذا الاجتماع الحاشد الكبير:
    " أيها الملك.. انه قد ضوى لك إلى بلدك غلمان سفهاء, فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك, بل جاؤوا بدين ابتدعوه, لا نعرفه نحن ولا أنت, وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم, أعمامهم, وعشائرهم, لتردّهم إليهم"...
    وولّى النجاشي وجهه شطر المسلمين, ملقيا عليهم سؤاله:
    " ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم, واستغنيتم به عن ديننا"..؟؟
    ونهض جعفر قائما.. ليؤدي المهمة التي كان المسلمون المهاجرون قد اختاروه لها إبّان تشاورهم, وقبل مجيئهم إلى هذا الاجتماع..

    نهض جعفر في تؤدة وجلال, وألقى نظرات محبّة على الملك الذي أحسن جوارهم وقال:
    " يا أيها الملك..
    كنا قوما أهل جاهلية: نعبد الأصنام, ونأكل الميتة, ونأتي الفواحش, ونقطع الأرحام, ونسيء الجوار, ويأكل القوي منا الضعيف, حتى بعث الله إلينا رسولا منا, نعرف نسبه وصدقه, وأمانته, وعفافه, فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده, ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان..
    وأمرنا بصدق الحديث, وأداء الأمانة, وصلة الرحم, وحسن الجوار, والكفّ عن المحارم والدماء..
    ونهانا عن الفواحش, وقول الزور, وأكل مال اليتيم, وقذف المحصنات.. فصدّقناه وآمنّا به, واتبعناه على ما جاءه من ربه, فعبدنا الله وحده ولم نشرك به شيئا, وحرّمنا ما حرّم علينا, وأحللنا ما أحلّ لنا, فغدا علينا قومنا, فعذبونا وفتنونا عن ديننا, ليردّونا إلى عبادة الأوثان, والى ما كنّا عليه من الخبائث..
    فلما قهرونا, وظلمونا, وضيّقوا علينا, وحالوا بيننا وبين ديننا, خرجنا إلىبلادك ورغبنا في جوارك, ورجونا ألا نظلم عندك"...

    ألقى جعفر بهذه الكلمات المسفرة كضوء الفجر, فملأت نفس النجاشي إحساسا وروعة, والتفت إلى جعفر وسأله:
    " هل معك مما أنزل على رسولكم شيء"..؟
    قال جعفر: نعم..
    قال النجاشي: فاقرأه علي..
    ومضى جعفر يتلو لآيات من سورة مريم, في أداء عذب, وخشوع فبكى النجاشي, وبكى معه أساقفته جميعا..
    ولما كفكف دموعه الهاطلة الغزيرة, التفت إلى مبعوثي قريش, وقال:
    " إن هذا, والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة..
    انطلقا فلا والله, لا أسلمهم إليكما"..!!

    انفضّ الجميع, وقد نصر الله عباده وآزرهم, في حين رزئ مندوبا قريش بهزيمة منكرة..
    لكن عمرو بن العاص كان داهية واسع الحيلة, لا يتجرّع الهزيمة, ولا يذعن لليأس..
    وهكذا لم يكد يعود مع صاحبه إلى نزلهما, حتى ذهب يفكّر ويدبّر, وقال لزميله:
    " والله لأرجعنّ للنجاشي غدا, ولآتينّه عنهم بما يستأصل خضراءهم"..
    وأجابه صاحبه: " لا تفعل, فان لهم أرحاما, وان كانوا قد خالفونا"..
    قال عمرو: " والله لأخبرنّه أنهم يزعمون أن عيسى بن مريم عبد, كبقية العباد"..
    هذه إذن هي المكيدة الجديدة الجديدة التي دبّرها مبعوث قريش للمسلمين كي يلجئهم إلى الزاوية الحادة, ويضعهم بين شقّي الرحى, فان هم قالوا عيسى عبد من عباد الله, حرّكوا ضدهم أضان الملك والأساقفة.. وان هم نفوا عنه البشرية خرجوا عن دينهم...!!

    وفي الغداة أغذا السير إلى مقابلة الملك, وقال له عمرو:
    " أيها الملك: إنهم ليقولون في عيسى قولا عظيما".
    واضطرب الأساقفة..
    واهتاجتهم هذه العبارة القصيرة..
    ونادوا بدعوة المسلمين لسؤالهم عن موقف دينهم من المسيح..
    وعلم المسلمون بالمؤامرة الجديدة, فجلسوا يتشاورون..
    ثم اتفقوا على أن يقولوا الحق الذي يسمعون من نبيهم عليه الصلاة والسلام, لايحيدون عنه قيد شعرة, وليكن ما يكن..!!
    وانعقد الاجتماع من جديد, وبدأ النجاشي الحديث سائلا جعفر:
    "ماذا تقولون في عيسى"..؟؟
    ونهض جعفر مرة أخرى كالمنار المضيء وقال:
    " نقول فيه ما جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبدالله ورسوله, وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه"..
    فهتف النجاشي مصدّقا ومعلنا أن هذا هو ما قاله المسيح عن نفسه..
    لكنّ صفوف الأساقفة ضجّت بما يسبه النكير..
    ومضى النجاشي المستنير المؤمن يتابع حديثه قائلا للمسلمين:
    " اذهبوا فأنتم آمنون بأرضي, ومن سبّكم أو آذاكم, فعليه غرم ما يفعل"..
    ثم التفت صوب حاشيته, وقال وسبّابته تشير إلى مبعوثي قريش:
    " ردّوا عليهما هداياهما, فلا حاجة لي بها...
    فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردّ عليّ ملكي, فآخذ الرشوة فيه"...!!
    وخرج مبعوثا قريش مخذولين, حيث وليّا وجهيهما من فورهما شطر مكة عائدين إليها...
    وخرج المسلمون بزعامة جعفر ليستأنفوا حياتهم الآمنة في الحبشة, لابثين فيها كما قالوا:" بخير دار.. مع خير جار.." حتى يأذن الله لهم بالعودة إلىرسولهم وإخوانهم وديارهم...

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتفل مع المسلمين بفتح خيبر حين طلع عليهم قادما من الحبشة جعفر بن أبي طالب ومعه من كانوا لا يزالون في الحبشة من المهاجرين..
    وأفعم قلب الرسول عليه الصلاة والسلام بمقدمة غبطة, وسعادة وبشرا..
    وعانقه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
    " لا أدري بأيهما أنا أسرّ بفتح خيبر.. أم بقدوم جعفر..".

    وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى مكة, حيث اعتمروا عمرة القضاء, وعادوا إلى المدينة, وقد امتلأت نفس جعفر روعة بما سمع من أنباء إخوانه المؤمنين الذين خاضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة بدر, وأحد.. وغيرهما من المشاهد والمغازي.. وفاضت عيناه بالدمع على الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه, وقضوا نحبهم شهداء أبرار..
    وطار فؤداه شوقا إلى الجنة, وأخذ يتحيّن فرصة الشهادة ويترقب لحظتها المجيدة..!!

    وكانت غزوة مؤتة التي أسلفنا الحديث عنها, تتحرّك راياتها في الأفق متأهبة للزحف, وللمسير..
    ورأى جعفر في هذه الغزوة فرصة العمر, فإمّا أن يحقق فيها نصرا كبيرا لدين الله, وإما أن يظفر باستشهاد عظيم في سبيل الله..
    وتقدّم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجوه أن يجعل له في هذه الغزوة مكانا..
    كان جعفر يعلم علم اليقين أنها ليست نزهة.. بل ولا حربا صغيرة, إنما هي حرب لم يخض الإسلام منها من قبل.. حرب مع جيوش إمبراطورية عريضة باذخة, تملك من العتاد والأعداد, والخبرة والأموال ما لا قبل للعرب ولا للمسلمين به, ومع هذا طار شوقا إليها, وكان ثالث ثلاثة جعلهم رسول الله قواد الجيش وأمراءه..
    وخرج الجيش وخرج جعفر معه..
    والتقى الجمعان في يوم رهيب..

    وبينما كان من حق جعفر أن تأخذ الرهبة عنده عندما بصر جيش الروم ينتظم مائتي ألف مقاتل, فانه على العكس, أخذته نشوة عارمة إذا أحسّ في أنفه المؤمن العزيز, واعتداد البطل المقتدر أنه سيقاتل أكفاء له وأندادا..!!
    وما كادت الراية توشك على السقوط من يمين زيد بن حارثة, حتى تلقاها جعفر باليمين ومضى يقاتل بها في إقدام خارق.. إقدام رجل لا يبحث عن النصر, بل عن الشهادة...
    وتكاثر عليه وحوله مقاتلي الروم, ورأى فرسه تعوق حركته فاقتحم عنها فنزل.. وراح يصوب سيفه ويسدده إلى نحور أعدائه كنقمة القدر.. ولمح واحدا من ألأعداء يقترب من فرسه ليعلو ظهرها, فعز عليه أن يمتطي صهوتها هذا الرجس, فبسط نحوها سيفه, وعقرها..!!
    وانطلق وسط الصفوف المتكالبة عليه يدمدم كالإعصار, وصوته يتعالى بهذا الزجر المتوهج:
    يا حبّذا الجنــــــة واقترابها طيّبة, وبارد شرابها
    والروم روم, قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
    عليّ إذا لاقيتها ضرابها
    وأدرك مقاتلو الروم مقدرة هذا الرجل الذي يقاتل, وكأنه جيش لجب..
    وأحاطوا به في إصرار مجنون على قتله.. وحوصر بهم حصارا لا منفذ فيه لنجاة..
    وضربوا بالسيوف يمينه, وقبل أن تسقط الراية منها على الأرض تلقاها بشماله.. وضربوها هي الأخرى, فاحتضن الراية بعضديه..
    في هذه اللحظة تركّزت كل مسؤوليته في ألا يدع راية رسول الله صلى الله عليه وسلم تلامس التراب وهو حيّ..
    وحين تكّومت جثته الطاهرة, كانت سارية الراية مغروسة بين عضدي جثمانه, ونادت خفقاتها عبدالله بن رواحة فشق الصفوف كالسهم نحوها, وأخذها في قوة, ومضى بها إلى مصير عظيم..!!

    وهكذا صنع جعفر لنفسه موتة من أعظم موتات البشر..!!
    وهكذا لقي الكبير المتعال, مضمّخا بفدائيته, مدثرا ببطولاته..
    وأنبأ العليم الخبير رسوله بمصير المعركة, وبمصير جعفر, فاستودعه الله, وبكى..
    وقام إلى بيت ابن عمّه, ودعا بأطفاله وبنيه, فشمّمهم, وقبّلهم, وذرفت عيناه..
    ثم عاد إلى مجلسه, وأصحابه حافون به. ووقف شاعر الإسلام حسّان بن ثابت يرثي جعفر ورفاقه:

    غداة مضوا بالمؤمنين يقودهــــم إلى الموت ميمون النقيبة أزهر
    أغرّ كضوء البدر من آل هاشــــم أبيّ إذا سيم الظلامة مجســــــر
    فطاعن حتى مال غير موســــــــد لمعترك فيه القنا يتكسّــــــــــــر
    فصار مع المستشهدين ثوابــــــه جنان, ومتلف الحدائق أخضــر
    وكنّا نرى في جعفر من محمـــــد وفاء وأمرا حازما حين يأمــــر
    فما زال في الإسلام من آل هاشم دعائم عز لا يزلن ومفخـــــــــر

    وينهض بعد حسّان, كعب بن مالك, فيرسل شعره الجزل :

    وجدا على النفر الذين تتابـعوا يوما بمؤتة, أسندوا لم ينقلـــــــوا
    صلى الإله عليهم من فتيـــــــة وسقى عظامهم الغمام المسبــــــل
    صبروا بمؤتة للإله نفوســـهم حذر الردى, ومخافة أن ينكلـــــوا
    إذ يهتدون بجعفر ولــــــــواؤه قدّام أولهم, فنـــــــــــــــــــعم الأول
    حتى تفرّجت الصفوف وجعفر حيث التقى وعث الصــفوف مجدّل
    فتغير القمر المنير لفقــــــــده والشمس قد كسفت, وكادت تـــأفل

    وذهب المساكين جميعهم يبكون أباهم, فقد كان جعفر رضي الله عنه أبا المساكين..
    يقول أبو هريرة:
    " كان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب"...
    أجل كان أجود الناس بماله وهو حيّ.. فلما جاء أجله أبى إلا أن يكون من أجود الشهداء وأكثرهم بذلا لروحه وحيته..

    يقول عبدالله بن عمر:
    " كنت مع جعفر في غزوة مؤتة, فالتمسناه, فوجدناه وبه بضع وتسعون ما بين رمية وطعنة"..!!
    بضع وتسعون طعنة سيف ورمية رمح..؟؟!!
    ومع هذا, فهل نال القتلة من روحه ومن مصيره منالا..؟؟
    أبدا.. وما كانت سيوفهم ورماحهم سوى جسر عبر عليه الشهيد المجيد إلىجوار الله الأعلى الرحيم, حيث نزل في رحابه مكانا عليّا..
    انه هنالك في جنان الخلد, يحمل أوسمة المعركة على كل مكان من جسد أنهكته السيوف والرماح..
    وان شئتم, فاسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
    " لقد رأيته في الجنّة.. له جناحان مضرّجان بالدماء.. مصبوغ القوادم"...!!!

  10. #20
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    عتبة بن غزوان ( غدا ترون الأمراء من بعدي )

    من بين المسلمين السابقين, والمهاجرين الأولين إلى الحبشة, فالمدينة..
    ومن بين الرماة الأفذاذ الذين أبلوا في سبيل الله بلاء حسنا, هذا الرجل الفارع الطول, المشرق الوجه, المخبت القلب عتبة بن غزوان...

    كان سابع سبعة سبقوا إلى الإسلام, وبسطوا أيمانهم إلى يمين الرسول صلى الله عليه وسلم, مبايعين ومتحدّين قريش بكل ما معها من بأس وقدرة على الانتقام..
    وفي الأيام الأولى للدعوة.ز أيام العسرة والهول, صمد عتبة بن غزوان, مع إخوانه ذلك الصمود الجليل الذي صار فيما بعد زادا للضمير الإنساني يتغذى به وينمو على مر الأزمان..
    ولما أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام أصحابه بالهجرة إلى الحبشة, خرج عتبة مع المهاجرين..
    بيد أن شوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعه يستقر هناك, فسرعان ما طوى البرّ والبحر عائدا إلى مكة, حيث لبث فيها بجوار الرسول حتى جاء ميقات الهجرة إلى المدينة, فهاجر عتبة مع المسلمين..
    ومنذ بدأت قريش تحرشاتها فحروبها, وعتبة حامل رماحه ونباله, يرمي بها في أستاذية خارقة, ويسهم مع إخوانه المؤمنين في هدم العالم القديم بكل أوثانه وبهتانه..
    ولم يضع سلاحه يوم رحل عنهم الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى, بل ظل يضرب في الأرض, وكان له مع جيوش الفرس جهاد عظيم..

    أرسله أمير المؤمنين عمر إلى الأبلّة ليفتحها, وليطهر أرضها من الفرس الذين كانوا يتخذونها نقطة وثوب خطرة على قوات الإسلام الزاحفة عبر بلاد الإمبراطورية الفارسية, تستخلص منها بلاد الله وعباده..
    وقال له عمر وهو يودّعه وجيشه:
    " انطلق أنت ومن معك, حتى تأتوا أقصى بلاد العرب, وأدنى بلاد العجم..
    وسر على بركة الله ويمنه..
    وادع إلى الله من أجابك.
    ومن أبى, فالجزية..
    وإلا فالسيف في غير هوادة..
    كابد العدو, واتق الله ربك"..

    ومضى عتبة على رأس جيشه الذي لم يكن كبيرا, حتى قدم الأبلّة..
    وكان الفرس يحشدون بها جيشا من أقوى جيوشهم..
    ونظم عتبة قواته, ووقف في مقدمتها, حاملا رمحه بيده التي لم يعرف الناس لها زلة منذ عرفت الرمي..!!
    وصاح في جنده:
    " الله أكبر, صدق وعده"..
    وكأنه كان يقرأ غيبا قريبا, فما هي إلا جولات ميمونة استسلمت بعدها الأبلّة وطهرت أرضها من جنود الفرس, وتحرر أهلها من طغيان طالما أصلاهم سعيرا.. وصدق الله العظيم وعده..!!

    احتطّ عتبة مكان الأبلّة مدينة البصرة, وعمّرها وبنى مسجدها العظيم..
    وأراد أن يغادر البلاد عائدا إلى المدينة, هاربا من الإمارة, لكن أمير المؤمنين أمره بالبقاء..
    ولبث عتبة مكانه يصلي بالناس, ويفقههم في دينهم, ويحكم بينهم بالعدل, ويضرب لهم أروع المثل في الزهد والورع والبساطة...
    ووقف يحارب الترف والسرف بكل قواه حتى ضجره الذين كانوا تستهويهم المناعم والشهوات..
    هنالك وقف عتبة فيهم خطيبا فقال:
    " والله, لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة ومالنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا..
    ولقد رزقت يوما بردة, فشققتها نصفين, أعطيت نصفها سعد بن مالك, ولبست نصفها الآخر"..

    كان عتبة يخاف الدنيا على دينه أشد الخوف, وكان يخافها على المسلمين, فراح يحملهم على القناعة والشظف.
    وحاول الكثيرون أن يحوّلوه عن نهجه, ويثيروا في نفسه الشعور بالإمارة, وبما للإمارة من حق, لاسيما في تلك البلاد التي لم تتعود من قبل أمراء من هذا الطراز المتقشف الزاهد, والتي تعود أهلها احترام المظاهر المتعالية المزهوّة.. فكان عتبة يجيبهم قائلا:
    " إني أعوذ بالله أن أكون في دنياكم عظيما, وعند الله صغيرا"..!
    ولما رأى الضيق على وجوه الناس بسبب صرامته في حملهم على الجادّة والقناعة قال لهم:
    " غدا ترون الأمراء من بعدي"..
    وجاء موسم الحج, فاستخلف على البصرة أحد إخوانه وخرج حاجا. ولما قضى حجه, سافر إلى المدينة, وهناك سأل أمير المؤمنين أن يعفيه الإمارة..
    لكن عمر لم يكن يفرّط في هذا الطراز الجليل من الزاهدين الهاربين مما يسيل له لعاب البشر جميعا.
    وكان يقول لهم:
    " تضعون أماناتكم فوق عنقي..
    ثم تتركوني وحدي..؟
    لا والله لا أعفكيم أبدا"..!!
    وهكذا قال لـعتبة لغزوان..
    ولما لم يكن في وسع عتبة إلا الطاعة, فقد استقبل راحلته ليركبها راجعا إلى البصرة.
    لكنه قبل أن يعلو ظهرها, استقبل القبلة, ورفع كفّيه الضارعتين إلى السماء ودعا ربه عز وجل ألا يردّه إلى البصرة, ولا إلى الإمارة أبدا..
    واستجيب دعاؤه..
    فبينما هو في طريقه إلى ولايته أدركه الموت..
    وفاضت روحه إلى بارئها, مغتبطة بما بذلت وأعطت..
    وبما زهدت وعفت..
    وبما أتم الله عليها من نعمة..
    وبما هيأ لها من ثواب...

صفحة 2 من 7 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
جميع الحقوق محفوظة للسبلة العمانية 2020
  • أستضافة وتصميم الشروق للأستضافة ش.م.م