في قرى بلادي الجميلة ، حيث يسكن صناع الحضارة من الآباء والأجداد وحيث تتناغم الطبيعة وتتمازج الألوان في مفردة حضارية راقية ، خرجت من أديم الأرض بيوتات تعبق برائحة المجد ، تعانق بعضها بعضا ، تتوشح بأبهى زخارفها كجيد يزينه عقد الجمان ...
في هذه الصفحات نرسم لكم ( لوحة من طين ) .
تعد العمارة الطينية موروثا حضاريا متجددا يعبر عن عظمة الإنسان وإبداع فنه وبراعته وإتقانه منذ فجر التاريخ ، فقد شكل هذا الإنسان من الطين أدواته الحياتية وبنى مدنه وقراه وقصوره وصروحه فكانت آية في الجمال والابداع ولقد هيأت الظروف البيئية للإنسان العربي منذ الأزل مثله مثل الأنسان في سائر البيئات الجافة توجهات اقتصادية وأخرى ثقافية ، أثمرت عنها تقنية ومهارة في العمارة الطينية، وكان لا بد له أن يتقن الصنعة حيث وجد الانسان العربي في العمارة الطينية ملاذا له من قسوة المناخ الصحراوي ألجاف ، كما برع إنسان عمان أيضا من خلال تراكم تجاربه المتوارثة ومعرفته الفائقة بالبيئة المحلية في تطوير استخدام مادة الطين التي تتمثل في مباني المجتمعات العمانية التقليدية التي لا تزال شامخة إلى يومنا هذا فالعمارة الطينية تحتضن رموزا تراثية ودلالات عريقة وتؤكد استمرار التواصل الحضاري بين الإنسان في العصور القديمة والحديثة.
والبيوت الطينية موجودة في كل مكان من عمان ، فهنالك البيوت المنفردة والمكونة من طابقين أو أكثر ، وهنالك الحارات المتكاملة التي تحيط بها الأسوار والبروج من كل جانب .
والحديث عن البيوت الطينية لايحمل شيئا من الغرابة ، فهي باقية منذ عشرات السنين وماثلة أمام أعيننا كالطود ، ولكن ما يستحق الحديث عنه هو أولئك الشباب الذين بنوا هذه البيوت وارتفعت على سواعدهم الفتية أعمدتها وقبابها وأسقفها .
كانوا وقتها في ريعان الصبا والفتوة ، وأخذ الزمن نصيبه من طاقتهم وعنفوانهم وبقي منهم من بقي صحيحا معافى إلى وقتنا هذا أو مصارعا للمرض نتيجة للجهد الكبير الذي أمضاه في شبابه .
مضينا إلى اللآجال التابعة لولاية نخل ، وقمنا بتصوير الكثير من مشاهد العمارة الطينية العريقة بحارة الجامع بولاية أدم ، مسلطين الضوء على الصورة أكثر من بحثنا عناصر التوثيق الأخرى بإعتبار أن الصورة تغني عن ألف كلمة .
تتميّز المنازل في الحارات الطينية العمانية بالزخارف الرفيعة والمتنوعة، وبنوافذها ذات المشربيات الصغيرة التي تشبه زوائد الحماية التي تضاف للقصور القديمة ، والعمارة الطينية رائعة للغاية ، ويطيب للبعض أن يبني بيته لأكثر من طابق ، فتبدو من بعيد شيئا جميلا لاسيما البيوت الطينيةالكبيرة المتلاصقة ذات الواجهات المصقولة المزخرفة وكأنها قطع من حلي وهذه البيوت ملائمة جدا للطقس الحار الذي يشكل أغلب شهور السنة ، فهي توفر جوا لطيفا باردا داخل غرفها وأفنيتها صيفا ، أما في الشتاء فإنها دافئة ولا يحس سكانها بالبرد القارس الذي يحسه سكان البيوت السعفية أو حتى البيوت الاسمنتية في وقتنا ، فالسكن في هذه البيوت يوفر أجواء مثالية للعيش فيها صيفا وشتاء .
المواد الخام :
إن بناء هذه البيوت يعتمد بشكل أساسي على استغلال تراب الأرض وتكييفه في روائع فنية تجسد القدرة على الإبداع الذي لا يزال قائماً حتى الآن ، والطين أساساً ناتج عن تحلل الصخور النارية، وهو لذلك مركب من دقائق صغيرة متبلورة ومن خواصه الطبيعية اللزوجة عند إضافة الماء إليه، أما لون الطين فيعتمد على المركبات المعدنية التي فيه؛ ولذا نراه يتدرج من الأبيض الفاتح الى البني الغامق ، أما عن الخواص التي تميز العمارة الطينية عن الأسمنتية فمنذ عرف الإنسان مميزات الطين، حافظ على استعماله في الكثير من دول العالم، اذ أثبتت الإحصائيات أن أكثر من مليار من البشر يستعملون العمارة الطينية ، لأن الجدران الطينية تعتبر عازلا جيداً للحرارة والبرودة ، فلا تسمح بسرعة انتقالها من غرفة إلى غرفة، كما ان هناك سهولة في التعامل مع الطين أثناء البناء فيسهل تشكيله وزخرفته بما يتناسب مع الطراز المعماري الإسلامي .
تطور الفن المعماري :
إن الفن المعماري الطيني في الجزيرة العربية مر بمراحل متعددة وأطوار مختلفة قبل الإسلام وبعده ، وآثار العمارات الطينية التي بنيت قبل الإسلام كانت تتزين بنقوش تمثل صور الحيوانات المختلفة مثل الوعل والبقر والغزلان والجمال، وأحياناً كانت المعارك توثق بالنقش على الجدران الطينية، وحتى مطاردات الإنسان للأسود وعبادته للأصنام كانت تنقش على تلك الجدران، أما بعد مجيء الإنسان وتهذيبه للفطرة الإنسانية، فقد تميز الطابع المعماري الطيني بمؤثرات إسلامية ظهرت واضحة جلية في المنارات والقباب والأربطة، واتخذت أشكالاً هندسية من المثلثات والمربعات والسداسيات، والأشكال المخروطية المستديرة وكثرت أشكال الهلال الذي يعتبر رمزاً للعمارة الإسلامية ، وتطورت المواد المستخدمة في الخلطة الطينية من حجر ينحت مع الكلس المستعمل لربط الحجارة والتشييد والتزيين الى طين يحرق بعد مزجه بالتبن المأخوذ من بقايا الشعير والبر.
كما يلاحظ أيضا أن 80 % من التراث المبني في السلطنة هو من العمارة الطينية لماضي عمان الذي يضرب بجذوره في أعماق التاريخ، وتشهد لعظمة إرثه الحضاري الاكتشافات الأثرية التي ما زالت تتواصل بين الحين والآخر ويسطر لنا بان شعوب منطقة الشرق الأدنى القديم قد عرفت العمارة الطينية منذ فجر التاريخ والأمثلة والشواهد التي تم التعرف عليها من حضارة بلاد الرافدين وحضارة وادي السند ما زالت شاهدة على فترة حضارية مهمة من التاريخ البشري حيث عرفت الأبنية الطينية في عمان منذ بدايات الألف الثالث ق.م فقد تجمعت عوامل عديدة ساهمت في ارتفاع درجة الحرارة في عمان ، الأمر الذي شجع على اختيار مادة الطين لتشييد المباني ولاتخاذه نمطا معماريا يتناسب ويتلاءم مع طبيعة المنطقة المناخية وظهرت شواهده في مواقع رأس الحد ورأس الجنز وهي دلالة على المكانة الحضارية التي كانت تعيشها مجتمعات الساحل العماني خلال تلك الفترة كما أنها جاءت لتؤكد وتفند في الوقت نفسه آراء ظلت سائدة لفترات طويلة تنسب العمارة الطينية وطرق وتخطيط المباني في هذه المواقع إلى حضارات أخرى
(منقول)