https://www.gulfupp.com/do.php?img=92989

قائمة المستخدمين المشار إليهم

صفحة 6 من 7 الأولىالأولى ... 4567 الأخيرةالأخيرة
النتائج 51 إلى 60 من 67

الموضوع: ▅ ▄ ▃ ▂ ▁ سلسلة رجال حول الرسول ..▁ ▂ ▃ ▄ ▅

  1. #51
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    أبو عبيدة بن الجرّاح ( أمين هذه الأمة )


    من هذا الذي أمسك الرسول بيمينه وقال عنه:
    " إن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح"..؟
    من هذا الذي أرسله النبي في غزوة ذات السلاسل مددا عمرو بن العاص, وجعله أميرا على جيش فيه أبو بكر وعمر..؟؟
    من هذا الصحابي الذي كان أول من لقب بأمير الأمراء..؟؟
    من هذا الطويل القامة النحيف الجسم, المعروق الوجه, الخفيف اللحية, الأثرم, ساقط الثنيتين..؟؟
    أجل من هذا القوي الأمين الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه:
    " لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيا لاستخلفته فان سألني ربي عنه قلت: استخلفت أمين الله, وأمين رسوله"..؟؟
    انه أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجرّاح..
    أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأيام الأولى للإسلام, قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الرقم, وهاجر إلى الحبشة في الهجرة الثانية, ثم عاد منها ليقف إلى جوار رسوله في بدر, وأحد, وبقيّة المشاهد جميعها, ثم ليواصل سيره القوي الأمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في صحبة خليفته أبي بكر, ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر, نابذا الدنيا وراء ظهره مستقبلا تبعات دينه في زهد, وتقوى, وصمود وأمانة.

    عندما بايع أبو عبيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم, على أن ينفق حياته في سبيل الله, كان مدركا تمام الإدراك ما تعنيه هذه الكلمات الثلاث, في سبيل الله وكان على أتم استعداد لأن يعطي هذا السبيل كل ما يتطلبه من بذل وتضحية..
    ومنذ بسط يمينه مبايعا رسوله, وهو لا يرى في نفسه, وفي أيامه وفي حياته كلها سوى أمانة استودعها الله إياها لينفقها في سبيله وفي مرضاته, فلا يجري وراء حظ من حظوظ نفسه.. ولا تصرفه عن سبيل الله رغبة ولا رهبة..
    ولما وفّى أبو عبيدة بالعهد الذي وفى به بقية الأصحاب, رأى الرسول في مسلك ضميره, ومسلك حياته ما جعله أهلا لهذا اللقب الكريم الذي أفاءه عليه,وأهداه إليه, فقال عليه الصلاة والسلام:
    " أمين هذه الأمة, أبو عبيدة بن الجرّاح".

    إن أمانة أبي عبيدة على مسؤولياته, لهي أبرز خصاله.. ففي غزوة أحد أحسّ من سير المعركة حرص المشركين, لا على إحراز النصر في الحرب, بل قبل ذلك ودون ذلك, على اغتيال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم, فاتفق مع نفسه على أن يظل مكانه في المعركة قريبا من مكان الرسول..
    ومضى يضرب بسيفه الأمين مثله, في جيش الوثنية الذي جاء باغيا وعاديا يريد أن يطفئ نور الله..

    وكلما استدرجته ضرورات القتال وظروف المعركة بعيدا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاتل وعيناه لا تسيران في اتجاه ضرباته.. بل هما متجهتان دوما إلى حيث يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويقاتل, ترقبانه في حرص وقلق..
    وكلما تراءى لأبي عبيدة خطر يقترب من النبي صلى الله عليه وسلم, انخلع من موقفه البعيد وقطع الأرض وثبا حيث يدحض أعداء الله ويردّهم على أعقابهم قبل أن ينالوا من الرسول منالا..!!
    وفي إحدى جولاته تلك, وقد بلغ القتال ذروة ضراوته أحاط بأبي عبيدة طائفة من المشركين, وكانت عيناه كعادتهما تحدّقان كعيني الصقر في موقع رسول الله, وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه إذ رأى سهما ينطلق من يد مشرك فيصيب النبي, وعمل سيفه في الذين يحيطون به وكأنه مائة سيف, حتى فرّقهم عنه, وطار صوب رسول الله فرأى الدم الزكي يسيل على وجهه, ورأى الرسول الأمين يمسح الدم بيمينه وهو يقول:
    " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم, وهو يدعهم إلى ربهم"..؟
    ورأى حلقتين من حلق المغفر الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد دخلا في وجنتي النبي, فلم يطق صبرا.. واقترب يقبض بثناياه على حلقة منهما حتى نزعها من وجنة الرسول, فسقطت ثنيّة, ثم نزع الحلقة الأخرى, فسقطت ثنيّة الثانية..
    وما أجمل أن نترك الحديث لأبي بكر الصديق يصف لنا هذا المشهد بكلماته:
    " لما كان يوم أحد, ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت في وجنته حلقتان من المغفر, أقبلت أسعى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا, فقلت: اللهم اجعله طاعة, حتى اذا توافينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإذا هو أبو عبيدة بن الجرّاح قد سبقني, فقال: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم..
    فتركته, فأخذ أبو عبيدة بثنيّة إحدى حلقتي المغفر, فنزعها, وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه..
    ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية أخرى فسقطت.. فكان أبو عبيدة في الناس أثرم."!!

    وأيام اتسعت مسؤوليات الصحابة وعظمت, كان أبو عبيدة في مستواها دوما بصدقه وبأمانته..
    فإذا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخبط أميرا على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المقاتلين وليس معهم زاد سوى جراب تمر.. والمهمة صعبة, والسفر بعيد, استقبل أبوعبيدة واجبه في تفان وغبطة, وراح هو وجنوده يقطعون الأرض, وزاد كل واحد منهم طوال اليوم حفنة تملا, حتى اذا أوشك التمر أن ينتهي, يهبط نصيب كل واحد إلى تمرة في اليوم.. حتى اذا فرغ التمر جميعا راحوا يتصيّدون الخبط, أي ورق الشجر بقسيّهم, فيسحقونه ويشربون عليه الماء.. ومن اجل هذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط..
    لقد مضوا لا يبالون بجوع ولا حرمان, ولا يعنيهم إلا أن ينجزوا مع أميرهم القوي الأمين المهمة الجليلة التي اختارهم رسول الله لها..!!

    لقد أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أمين الأمة أبا عبيدة كثيرا.. وآثره كثيرا...
    ويوم جاء وفد نجلان من اليمن مسلمين, وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن والسنة والإسلام, قال لهم رسول الله:
    " لأبعثن معكم رجلا أمينا, حق أمين, حق أمين.. حق أمين"..!!
    وسمع الصحابة هذا الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتمنى كل منهم لو يكون هو الذي يقع اختيار الرسول عليه, فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه..
    يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
    " ما أحببت الإمارة قط, حبّي إياها يومئذ, رجاء أن أكون صاحبها, فرحت إلى الظهر مهجّرا, فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر, سلم, ثم نظر عن يمينه, وعن يساره, فجعلت أتطاول له ليراني..
    فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح, فدعاه, فقال: أخرج معهم, فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.. فذهب بها أبا عبيدة؟..!!
    إن هذه الواقعة لا تعني طبعا أن أبا عبيدة كان وحده دون بقية الأصحاب موضع ثقة الرسول وتقديره..
    إنما تعني أنه كان واحدا من الذين ظفروا بهذه الثقة الغالية, وهذا التقدير الكريم..
    ثم كان الواحد أو الوحيد الذي تسمح ظروف العمل والدعوة يومئذ بغيابه عن المدينة, وخروجه في تلك المهمة التي تهيئه مزاياه لانجازها..
    وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أمينا, عاش بعد وفاة الرسول أمينا.. بحمل مسؤولياته في أمانة تكفي أهل الأرض لو اغترفوا منها جميعا..

    ولقد سار تحت راية الإسلام جنديّا, كأنه بفضله وبإقدامه الأمير.. وأميرا كأن بتواضعه وبإخلاصه واحدا من عامة المقاتلين..
    وعندما كان خالد بن الوليد.. يقود جيوش الإسلام في إحدى المعارك الفاصلة الكبرى.. واستهل أمير المؤمنين عمر عهده بتولية أبي عبيدة مكان خالد..

    لم يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر بهذا الأمر الجديد, حتى استكتمه الخبر, وكتمه هو في نفسه طاويا عليه صدر زاهد, فطن, أمين.. حتى أتمّ القائد خالد فتحه العظيم..
    وآنئذ, تقدّم إليه في أدب جليل بكتاب أمير المؤمنين!!
    ويسأله خالد:
    " يرحمك الله يا أبا عبيدة ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب"..؟؟
    فيجيبه أمين الأمة:
    " إني كرهت أن أكسر عليك حربك, وما سلطان الدنيا نريد, ولا للدنيا نعمل, كلنا في الله إخوة".!!!

    ويصبح أبا عبيدة أمير الأمراء في الشام, ويصير تحت إمرته أكثر جيوش الإسلام طولا وعرضا.. عتادا وعددا..
    فما كنت تحسبه حين تراه إلا واحدا من المقاتلين.. وفردا عاديا من المسلمين..
    وحين ترامى إلى سمعه أحاديث أهل الشام عنه, وانبهارهم بأمير الأمراء هذا.. جمعهم وقام فيهم خطيبا..
    فانظروا ماذا قال للذين رآهم يفتنون بقوته, وعظمته, وأناته..
    " يا أيها الناس..
    إني مسلم من قريش..
    وما منكم من أحد, أحمر, ولا أسود, يفضلني بتقوى إلا وددت أني في إهابه"..ّّ
    حيّاك الله يا أبا عبيدة..
    وحيّا الله دينا أنجبك ورسولا علمك..
    مسلم من قريش, لا أقل ولا أكثر.
    الدين: الإسلام..
    والقبيلة: قريش.
    هذه لا غير هويته..
    أما هو كأمير الأمراء, وقائد لأكثر جيوش الإسلام عددا, وأشدّها بأسا, وأعظمها فوزا..
    أما هو كحاكم لبلاد الشام,أمره مطاع ومشيئته نافذة..
    كل ذلك ومثله معه, لا ينال من انتباهه لفتة, وليس له في تقديره حساب.. أي حساب..!!

    ويزور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشام, ويسأل مستقبليه:
    أين أخي..؟
    فيقولون من..؟
    فيجيبهم: أبو عبيدة بن الجراح.
    ويأتي أبو عبيدة, فيعانقه أمير المؤمنين عمر.. ثم يصحبه إلى داره, فلا يجد فيها من الأثاث شيئا.. لا يجد إلا سيفه, وترسه ورحله..
    ويسأله عمر وهو يبتسم:
    " ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس"..؟
    فيجيبه أبو عبيدة:
    " يا أمير المؤمنين, هذا يبلّغني المقيل"..!!

    وذات يوم, وأمير المؤمنين عمر الفاروق يعالج في المدينة شؤون عالمه المسلم الواسع, جاءه الناعي, أن قد مات أبو عبيدة..
    وأسبل الفاروق جفنيه على عينين غصّتا بالدموع..
    وغاض الدمع, ففتح عينيه في استسلام..
    ورحّم على صاحبه, واستعاد ذكرياته معه رضي الله عنه في حنان صابر..
    وأعاد مقالته عنه:
    " لو كنت متمنيّا, ما تمنيّت إلا بيتا مملوءا برجال من أمثال أبي عبيدة"..

    ومات أمين الأمة فوق الأرض التي طهرها من وثنية الفرس, واضطهاد الرومان..
    هناك اليوم تحت ثرى الأردن يثوي رفات نبيل, كان مستقرا لروح خير, ونفس مطمئنة..
    وسواء عليه, وعليك, أن يكون قبره اليوم معروف أو غير معروف..
    فإنك اذا أردت أن تبلغه لن تكون بحاجة إلى من يقودك إليه..
    ذلك أن عبير رفاته, سيدلك عليه..!!

    •   Alt 

       

  2. #52
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    بلال بن رباح ( الساخر من الأهوال )

    كان عمر بن الخطاب, إذا ذكر أبو بكر قال:
    " أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا"..
    يعني بلالا رضي الله عنه..
    وإن رجلا يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ..
    لكن هذا الرجل الشديد السمرة, النحيف الناحل, المفرط الطول الكث الشعر, الخفيف العارضين, لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه إليه, وتغدق عليه, إلا ويحني رأسه ويغض طرفه, ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل:
    "إنما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!
    فمن هذا الحبشي الذي كان بالأمس عبدا..!!
    انه "بلال بن رباح" مؤذن الإسلام , ومزعج الأصنام..
    انه إحدى معجزات الإيمان والصدق.
    إحدى معجزات الإسلام العظيم..
    في كل عشرة مسلمين. منذ بدأ الإسلام إلى اليوم, وإلى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل يعرفون بلالا..
    أي إن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا, وحفظوا اسمه, وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الإسلام : أبي بكر وعمر...!!
    وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر, أو باكستان, أو الصين..
    وفي الأمريكيتين, وأوروبا وروسيا..
    وفي العراق , وسوريا, وإيران والسودان..
    في تونس والمغرب والجزائر..
    في أعماق أفريقيا, وفوق هضاب آسيا..
    في كل بقعة من الأرض يقتنها مسلمون, تستطيع إن تسأل أي طفل مسلم: من بلال يا غلام؟
    فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه, فيقول:
    "أحد.. أحد.."

    وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الإسلام بلالا.. فاعلم إن بلال هذا, لم يكن قبل الإسلام أكثر من عبد رقيق, يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر, حتى يطو به الموت, ويطوّح به إلى أعماق النسيان..
    لكن صدق إيمانه, وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته, وفي تاريخه مكان ا عليّا في الإسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء...
    إن كثيرا من عليّة البشر, وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم, لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي..!!
    بل إن كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال..
    إن سواد بشرته, وتواضع حسبه ونسبه, وهوانه على الإنس كعبد رقيق, لم يحرمه حين آثر الإسلام دينا, من إن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه, وطهره, وتفانيه..

    إن ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب, إلا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها..
    فلقد كان الناس يظنون إن عبدا مثل بلال, ينتمي إلى أصول غريبة.. ليس له أهل, ولا حول, ولا يملك من حياته شيئا, فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده وإبله وماشيته..
    كانوا يظنون إن مثل هذا الكائن, لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون شيئا..
    ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا, فيقدر على إيمان, هيهات إن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والإسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول..!!
    أجل.. بلال بن رباح!
    أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!

    انه حبشي من أمة السود... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة, حيث كان ت أمه إحدى إمائهم وجواريهم..
    كان يعيش عيشة الرقيق, تمضي أيامه متشابهة قاحلة, لا حق له في يومه, ولا أمل له في غده..!!
    ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه, حين أخذ الإنس في مكة يتناقلونها, وحين كان يصغي إلى أحاديث ساداته وأضيافهم, سيما "أمية بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..
    لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا, وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا, وغمّا وشرا..

    وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون, الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها.. كما كان ت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..!!
    أجل انه ليسمعهم يعجبون, ويحارون, في هذا الذي جاء به محمد..!!
    ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وإن لم يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله, حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون إلى دينه..!!
    سمعهم يتحدّثون عن أمانته..
    عن وفائه..
    عن رجولته وخلقه..
    عن نزاهته ورجاحة عقله..
    وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته, تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش ثانيا, ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني, كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها, ثم الحقد على بني هاشم, إن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!

    وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله, ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه, فيذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويسلم..
    ولا يلبث خبر إسلامه إن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في إسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..
    عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!
    ويقول أميّة لنفسه: ومع هذا فلا بأس.. إن شمس هذا اليوم لن تغرب إلا ويغرب معها إسلام هذا العبد الآبق..!!
    ولكن الشمس لم تغرب قط بإسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها, وحماة الوثنية فيها...!

    أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للإسلام وحده, وإن كان الإسلام أحق به, ولكنه شرف للإنسانية جميعا..
    لقد صمد لأقسى ألوان التعذيب صمود الأبرار العظام.
    ولكان ما جعله الله مثلا على إن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت إيمانها, واعتصمت بباريها, وتشبثت بحقها..
    لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه, وفي كل مكان, للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه إن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا, ولا بملئها عذابا..
    لقد وضع عريانا فوق الجمر, على إن يزيغ عن دينه, أو يزيف اقتناعه فأبى..

    لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام, والإسلام , من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير, والدفاع عن حريته وسيادته..
    لقد كان ويخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها إلى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الملتهب وهو عريان, ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكان ه بضعة رجال, ويلقون به فوق جسده وصدره..
    ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم, حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه, فرضوا آخر الأمر إن يخلوا سبيله, على إن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم, ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم وإصراره..

    ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع إن يلقيها من وراء قلبه, ويشتري بها حياته نفسه, دون إن يفقد إيمانه, ويتخلى عن اقتناعه..
    حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال إن يقولها..!
    نعم لقد رفض إن يقولها, وصار يردد مكان ها نشيده الخالد:"أحد أحد"
    يقولون له: قل كما نقول..
    فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:
    "إن لساني لا يحسنه"..!!
    ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره, حتى اذا حان الأصيل أقاموه, وجعلوا في عنقه حبلا, ثم أمروا صبيانهم إن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس:" أحد أحد".

    وكان ي اذا جنّ عليهم الليل يساومونه:
    غدا قل كلمات خير في آلهتنا, قل ربي اللات والعزى, لنذرك وشأنك, فقد تعبنا من تعذيبك, حتى لكان لنا نحن المعذبون!
    فيهز رأسه ويقول:" أحد.. أحد..".
    ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا, ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.
    ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس:
    "أحد.. أحد.."
    ويعود للحديث والمساومة, من وكل إليه تمثيل دور المشفق عليه, فيقول:
    خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم, إن بلالا منا أمه جاريتنا, وانه لن يرضى إن يجعلنا بإسلامه حديث قريش وسخريّتها..
    ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة, ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر, ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا:
    "أحد.. أحد.."
    وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة, ويؤخذ بلال إلى الرمضاء, وهو صابر محتسب, صامد ثابت.
    ويذهب إليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه, ويصيح بهم:
    (أتقتلون رجلا إن يقول ربي الله)؟؟
    ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا..
    وكان ما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..

    لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره إذ كان اليأس من تطويع بلال قد بلغ في نفوسهم أشده, ولأنهم كانوا من التجار, فقد أدركوا إن بيعه أربح لهم من موته..
    باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره, وأخذ بلال مكان ه بين الرجال الأحرار...

    وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به إلى الحرية قال له أمية:
    خذه, فواللات والعزى, لو أبيت إلا إن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..
    وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه..
    ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له, وندّا,أجاب أمية قائلا:
    والله لو أبيتم أنتم إلا مائة أوقية لدفعتها..!!

    وانطلق بصاحبه إلى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!
    وبعد هجرة الرسول والمسلمين إلى المدينة, واستقرارهم بها, يشرّع الرسول للصلاة أذانها..
    فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟
    انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحد..أحد".
    لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للإسلام.
    وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة إيمانا, والأسماع روعة وهو ينادى:
    الله أكبر.. الله أكبر
    الله أكبر .. الله أكبر
    أشهد أن لا إله إلا الله
    أشهد أن لا اله إلا الله
    أشهد أن محمدا رسول الله
    أشهد أن محمدا رسول الله
    حي على الصلاة
    حي على الصلاة
    حي على الفلاح
    حي على الفلاح
    الله أكبر.. الله أكبر
    لا إله إلا الله...

    ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم إلى المدينة غازيا..
    وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الإسلام , غزوة بدر.. تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون شعارها: "أحد..أحد".

    في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها, وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم..!!
    ولقد همّ بالنكوص عن الخروج "أمية بن خلف" .. هذا الذي كان سيدا لبلال, والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..

    همّ بالنكوص لولا إن ذهب إليه صديقه "عقبة بن أبي معيط" حين علم عن نبأ تخاذله وتقاعسه, حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو جالس وسط قومه, ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي, استجمر بهذا, فإنما أنت من النساء..!!!
    وصاح به أمية قائلا: قبحك الله, وقبّح ما جئت به..
    ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج..
    أيّة أسرار للقدر, يطويها وينشرها..؟
    لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال, وغير بلال من المسلمين المستضعفين..
    واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج إلى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه..!!
    كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا!
    لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب.. ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج..!!
    ولكن الله بالغ أمره, فليخرج أمية فإن بينه وبين عبد من عباد الله حسابا قديما, جاء أوان تصفيته, فالديّان لا يموت, وكما تدينون تدانون..!!

    وإن القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين.. فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه, ويسارع إلى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء, هو نفسه الذب سيقود أميّة إلى مصرعه..
    وبيد من..؟
    بيد بلال نفسه.. وبلال وحده!!
    نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلاسل, وأوجع صاحبها ضربا, وعذابا..
    مع هذه اليد ذاتها, هي اليوم, وفي غزوة بدر, على موعد أجاد القدر توقيته, مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا..
    ولقد حدث هذا تماما..

    وحين بدأ القتال بين الفريقين, وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين بشعارهم:" أحد.. أحد" انخلع قلب أمية, وجاءه النذير..
    إن الكلمة التي كان يرددها بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار الأمة الجديدة كلها..!!
    "أحد..أحد"؟؟!!
    أهكذا..؟ وبهذه السرعة.. وهذا النمو العظيم..؟؟

    وتلاحمت السيوف وحمي القتال..
    وبينما المعركة تقترب من نهايتها, لمح أمية بن خلف" عبد الرحمن بن عوف" صاحب رسول الله, فاحتمى به, وطلب إليه أن يكون أسيره رجاء إن يخلص بحياته..
    وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره, ثم سار به وسط العمعمة إلى مكان السرى.
    وفي الطريق لمح بلال فصاح قائلا:
    "رأس الكفر أميّة بن خلف.. لا نجوت إن نجا".
    ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر, فصاح به عبد الرحمن بن عوف:
    "أي بلال.. إنه أسيري".
    أسير والحرب مشبوبة دائرة..؟
    أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين..؟
    لا.. ذلك في رأي بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية..
    سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم, وهذا المأزق, وهذا المصير..!!
    ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف, فصاح بأعلى صوته في المسلمين:
    "يا أنصار الله.. رأس الكفر أمية بن خلف, لا نجوت إن نجا"...!
    وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا, وأحاطت بأمية وابنه ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا..
    وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة, ثم هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح:
    "أحد.. أحد.."

    لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام..
    فلو أن اللقاء بين بلال وأمية تمّ في ظروف أخرى, لجاز لنا أن نسال بلالا حق التسامح, وما كان لرجل في مثل إيمانه وتقاه أن يبخل به.
    لكن اللقاء الذي تم بينهما, كان في حرب, جاءها كل فريق ليفني غريمه..

    السيوف تتوهج.. والقتلى يسقطون.. والمنايا تتواثب, ثم يبصر بلال أمية الذي لم يترك في جسده موضع أنملة إلا ويحمل آثار تعذيب.
    وأين يبصره وكيف..؟
    يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين, ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوّح به..
    في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها, لا يكون من المنطق العادل في شيء إن نسأل بلالا: لماذا لم يصفح الصفح الجميل..؟؟

    وتمضي الأيام وتفتح مكة..
    ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلاف من المسلمين..
    ويتوجه إلى الكعبة رأسا.. هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام السنة من الأصنام..!!
    لقد جاء الحق وزهق الباطل..
    ومن اليوم لا عزى.. ولا لات.. ولا هبل.. لن يجني الإنسان بعد اليوم هامته لحجر, ولا وثن.. ولن يعبد الناس ملء ضمائرهم إلا الله إلي ليس كمثله شيء, الواحد الأحد, الكبير المتعال..
    ويدخل الرسول الكعبة, مصطحبا معه بلال..!
    ولا يكاد يدخلها حتى يواجه تمثالا منحوتا, يمثل إبراهيم عليه السلام وهو يستقسم بالأزلام, فيغضب الرسول ويقول:
    "قاتلهم الله..
    ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام.. ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين".

    ويأمر بلال أن يعلو ظهر المسجد, ويؤذن.
    ويؤذن بلال.. فيالروعة الزمان, والمكان , والمناسبة..!!
    كفت الحياة في مكة عن الحركة, ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة, تردد في خشوع وهمس كلمات الأذان وراء بلال.

    والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون:
    أهذا هو محمد وفقراؤه الذين أخرجوا بالأمس من هذا الديار..؟؟
    أهذا هو حقا, ومعه عشرة آلاف من المؤمنين..؟؟
    أهذا هو حقا الذي قاتلناه, وطاردناه, وقتلنا أحب الناس إليه..؟
    أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه, ويقول لنا:
    "اذهبوا فأنتم الطلقاء"..!!

    ولكن ثلاثة من أشراف قريش, كانوا جلوسا بفناء الكعبة, وكان ما يلفحهم مشهد بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه, ويرسل من فوق ركامها المهيل صوته بالأذان المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع..
    أما هؤلاء الثلاثة فهم, أبو سفيان بن حرب, وكان قد أسلم منذ ساعات, وعتّاب بن أسيد, والحارث بن هشام, وكان لم يسلما بعد.

    قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه:
    لقد أكرم الله أسيدا, ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث:
    أما والله لو أعلم إن محمدا محق لاتبعته..!!
    وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائلا:
    إني لا أقول شيئا, فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى!! وحين غادر النبي الكعبة رآهم, وقرأ وجوههم في لحظة, قال وعيناه تتألقان بنور الله, وفرحة النصر:
    قد علمت الذي قلتم..!!!
    ومضى يحدثهم بما قالوا..
    فصاح الحارث وعتاب:
    نشهد أنك رسول الله, والله ما سمعنا أحد فنقول أخبرك..!!
    واستقبلا بلال بقلوب جديدة..في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول أول دخول مكة:
    " يامعشر قريش..
    إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء..
    الناس من آدم وآدم من تراب"..

    وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, يشهد معه المشاهد كلها, يؤذن للصلاة, ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات إلى النور, ومن الرق إلى الحريّة..
    وعلا شأن الإسلام , وعلا معه شأن المسلمين, وكان بلال يزداد كل يوم قربا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه:" رجل من أهل الجنة"..
    لكن بلالا بقي كما هو كريما متواضعا, لا يرى نفسه إلا أنه:" الحبشي الذي كان بالأمس عبدا"..!!
    ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما:
    "أنا بلال, هذا أخي عبدان من الحبشة.. كنا ضالين فهدانا الله.. وكنا عبدين فأعتقنا الله.. إن تزوّجونا فالحمد لله.. وإن تمنعونا فالله أكبر.."!!

    وذهب الرسول إلى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا, ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق..
    وذهب بلال إلى خليفة رسول الله يقول له:
    " يا خليفة رسول الله..
    إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أفضل عمل لمؤمن الجهاد في سبيل الله"..
    فقال له أبو بكر: فما تشاء يا بلال..؟
    قال: أردت إن أرابط في سبيل الله حتى أموت..
    قال أبو بكر ومن يؤذن لنا؟
    قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع, إني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله.
    قال أبو بكر: بل ابق وأذن لنا يا بلال..
    قال بلال: إن كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد. وإن كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له..
    قال أبو بكر: بل أعتقتك لله يا بلال..
    ويختلف الرواة, فيروي بعضهم أنه سافر إلى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا.
    ويروي بعضهم الآخر, أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة, فلما قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج إلى الشام.

    على أية حال, فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الإسلام , مصمما إن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه.

    ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب, ذلك أنه لم ينطق في أذانه "أشهد أن محمدا رسول الله" حتى تجيش به الذميات فيختفي صوته تحت وقع أساه, وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته.
    وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون إليه أن يحمل بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة.
    ودعا أمير المؤمنين بلال, وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها.
    وصعد بلال وأذن.. فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له.. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا.. وكان عمر أشدهم بكاء..!!

    ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد.

    وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف إلى جانب العقيدة والاقتناع...

  3. #53
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    خالد بن سعيد ( فدائيّ - من الرعيل الأول )


    في بيت وارف النعمة, مزهو بالسيادة, ولأب له في قريش صدارة وزعامة, ولد خالد بن سعيد بن العاص, وان شئتم مزيدا من نسبه فقولوا: ابن اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف..
    ويوم بدأت خيوط النور تسري في أنحاء مكة على استحياء, هامسة بأن محمدا الأمين يتحدث عن وحي جاءه في غار حراء, وعن رسالة تلقاها من الله ليبلغها إلى عباده, كان قلب خالد يلقي للنور الهامس سمعه وهو شهيد..!!
    وطارت نفسه فرحا, كأنما كان وهذه الرسالة على موعد.. وأخذ يتابع خيوط النور في سيرها ومسراها.. وكلما سمع ملأ من قومه يتحدثون عن الدين الجديد, جلس اليهم وأصغى في حبور مكتوم, وبين الحين والحين يطعّم الحديث بكلمة منه, أو كلمات تدفعه في طريق الذيوع, والتأثير, والإيحاء..!
    كان الذي يراه آنئذ, يبصر شابا هادئ السمت, ذكيّ الصمت, بينما هو في باطنه وداخله, مهرجان حافل بالحركة والفرح.. فيه طبول تدق.. ورايات ترتفع.. وأبواق تدوّي.. وأناشيد تصلي.. وأغاريد تسبّح..
    عيد بكل جمال العيد, وبهجة العيد وحماسة العيد, وضجة العيد..!!!
    وكان الفتى يطوي على هذا العيد الكبير صدره, ويكتم سرّه, فان أباه لو علم أنه يحمل في سريرته كل هذه الحفاوة بدعوة محمد, لأزهق حياته قربانا لآلهة عبد مناف..!!
    ولكن أنفسنا الباطنة حين تفعم بأمر, ويبلغ منها حدّ الامتلاء فإنها لا تملك لإفاضته دفعا..
    وذات يوم..
    ولكن لا.. فان النهار لم يطلع بعد, وخالد ما زال في نومه اليقظان, يعالج رؤيا شديدة الوطأة, حادة التأثير, نفاذة العبير..

    نقول إذن: ذات ليلة, رأى خالد بن سعيد في نومه أنه واقف على شفير نار عظيمة, وأبوه من ورائه يدفعه بكلتا يديه, ويريد أن يطرحه فيها, ثم رأى رسول الله يقبل عليه, ويجذبه بيمينه المباركة من إزاره فيأخذه بعيدا عن النار واللهب..
    ويصحو من نومه مزوّدا بخطة العمل في يومه الجديد, فيسارع من فوره إلى دار أبي بكر, ويقصّ عليه الرؤيا.. وما كانت الرؤيا بحاجة إلى تعبير..
    وقال له أبو بكر:
    " انه الخير أريد لك.. وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعه, فان الإسلام حاجزك عن النار".
    وينطلق خالد باحثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يهتدي إلى مكانه فيلقاه, ويسأل النبي عن دعوته, فيجيبه عليه السلام:
    " تؤمن بالله وحده, ولا تشرك به شيئا..
    وتؤمن بمحمد عبده ورسوله.. وتخلع عبادة الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر, ولا تضر ولا تنفع"..
    ويبسط خالد يمينه, فتلقاها يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفاوة, ويقول خالد:
    " إني أشهد أن لا اله إلا الله...
    وأشهد أن محمدا رسول الله"..!!
    وتنطلق أغاريد نفسه وأناشيدها..
    ينطلق لمهرجان كله الذي كان في باطنه.. ويبلغ النبأ أباه.

    يوم أسلم سعيد, لم يكن قد سبقه إلى الإسلام سوى أربعة أو خمسة,فهو إذن من الخمسة الأوائل المبكرين إلى الإسلام.
    وحين يباكر بالإسلام واحد من ولد سعيد بن العاص, فان ذلك في رأي سعيد, عمل يعرّضه للسخرية والهوان من قريش, ويهز الأرض تحت زعامته.
    وهكذا دعا إليه خالد, وقال له:" أصحيح أنك اتبعت محمدا وأنت تسمعه يهيب آلهتنا"..؟؟
    قال خالد: " إنه والله لصادق..
    ولقد آمنت به واتبعته"..
    هنالك انهال عليه أبوه ضربا, ثم زجّ به في غرفة مظلمة من داره, حيث صار حبيسها, ثم راح يضنيه ويرهقه جوعا ..
    وخالد يصرخ فيهم من وراء الباب المغلق عليه:
    " والله انه لصادق, وإني به لمؤمن".
    وبدا لسعيد أن ما أنزل بولده من ضرر لا يكفي, فخرج به إلى رمضاء مكة, حيث دسّه بين حجارتها الثقيلة الفادحة الملتهبة ثلاثة أيام لا يواريه فيها ظل..!!
    ولا يبلل شفتيه قطرة ماء..!!
    ويئس الوالد من ولده, فعاد به إلى داره, وراح يغريه, ويرهبه.. يعده, ويتوعّده.. وخالد صامد كالحق, يقول لأبيه:
    " لن أدع الإسلام لشيء, وسأحيا به وأموت عليه"..
    وصاح سعيد:
    " إذن فاذهب عني يا لكع, فواللات لأمنعنّك القوت"..
    وأجابه خالد:
    ".. والله خير الرازقين"..!!
    وغادر الدار التي تعجّ بالرغد, من مطعم وملبس وراحة..
    غادرها إلى الخصاصة والحرمان..
    ولكن أي بأس..؟؟
    أليس إيمانه معه..؟؟
    ألم يحتفظ بكل سيادة ضميره, وبكل حقه في مصيره..؟؟
    ما الجوع إذن, وما الحرمان, وما العذاب..؟؟

    وإذا وجد إنسان نفسه مع حق عظيم كهذا الحق الذي يدعو إليه محمد رسول الله, فهل بقي في العالم كله شيء ثمين لم يمتلكه من ربح نفسه في صفقة, الله صاحبها وواهبها...؟؟
    وهكذا راح خالد بن سعيد يقهر العذاب بالتضحية, ويتفوق على الحرمان بالإيمان..
    وحين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه المؤمنين بالهجرة الثانية إلى الحبشة, كان خالد بن سعيد, ممن شدّوا رحالهم إليها..

    ويمكث خالد هناك إلى ما شاء الله أن يمكث, ثم يعود مع إخوانه راجعين إلى بلادهم, سنة سبع, فيجدون المسلمين قد فرغوا لتوهم من فتح خيبر..
    ويقيم خالد بالمدينة وسط المجتمع المسلم الجديد الذي كان أحد الخمسة الأوائل الذين شهدوا ميلاده, وأسسوا بناءه, ولا يغزو النبي غزوة, ولا يشهد مشهدا, إلا وخالد بن سعيد من السابقين..
    وكان خالد بسبقه إلى الإسلام, وباستقامة ضميره ونهجه موضع الحب والتكريم..
    كان يحترم اقتناعه فلا يزيفه ولا يضعه موضع المساومة.
    قبل وفاة الرسول جعله عليه السلام واليا على اليمن..
    ولما ترامت إليه أنباء استخلاف أبي بكر, ومبايعته غادر عمله قادما إلى المدينة..
    وكأنه يعرف لأبي بكر الفضل الذي لا يطاول..
    بيد أنه كان يرى أن أحق المسلمين بالخلافة واحد من بين هاشم:
    العباس مثلا, أو عليّ ابن أبي طالب..
    ووقف إلى جانب اقتناعه فلم يبايع أبا بكر..
    وظل أبو بكر على حبه له, وتقديره إياه لا يكرهه على أن يبايع, ولا يكرهه لأنه لم يبايع, ولا يأتي ذكره بين المسلمين إلا أطراه الخليفة العظيم, وأثنى عليه بما هو أهله..
    ثم تغيّر اقتناع خالد بن سعيد, فإذا هو يشق الصفوف في المسجد يوما وأبو بكر فوق المنبر, فيبايعه بيعة صادقة وثقى..

    ويسيّر أبا بكر جيوشه إلى الشام, ويعقد لخالد بن سعيد لواء, فيصير أحد أمراء الجيش..
    ولكن يحدث قبل أن تتحرك القوات من المدينة أن يعارض عمر في إمارة خالد بن سعيد, ويظل يلح على الخليفة أن يغيّر قراره بشأن إمارة خالد..
    ويبلغ النبأ خالد, فلا يزيد على قول:
    " والله ما سرّتنا ولايتكم, ولا ساءنا عزلكم"..!!
    ويخفّ الصدّيق رضي الله عنه إلى دار خالد معتذرا له, ومفسرا له موقفه الجديد, ويسأله مع من من القوّاد والأمراء يجب أن يكون: مع عمرو بن العاص وهو ابن عمه, أو مع شرحبيل بن حسنة؟
    فيجيب خالد إجابة تنمّ على عظمة نفسه وتقاها:
    " ابن عمّي أحبّ إليّ في قرابته, وشرحبيل أحبّ في أحبّ إليّ في دينه"..
    ثم اختار أن يكون جنديا في كتيبة شرحبيل بن حسنة..

    ودعا أبو بكر شرحبيل إليه قبل أن يتحرّك الجيش, وقال له:
    " انظر خالد بن سعيد, فاعرف له من الحق عليك, مثل مل كنت تحبّ أن يعرف من الحق لك, لو كنت مكانه, وكلن مكانك..
    انك لتعرف مكانته في الإسلام..
    وتعلم أن رسول الله توفى وهو له وال..
    ولقد كنت وليته ثم رأيت غير ذلك..
    وعسى أن يكون ذلك خيرا له في دينه, فما أغبط أحد بالإمارة..!!
    وقد خيّرته في أمراء الجند فاختارك على ابن عمّه..
    فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح, فليكن أول من تبدأ به: أبو عبيدة بن الجرّاح, ومعاذ بن جبل.. وليك خالد بن سعيد ثالثا, فانك واجد عندهم نصحا وخيرا..
    وإياك واستبداد الرأي دونهم, أو إخفاءه عنهم"..

    وفي موقعه مرج الصفر بأرض الشام, حيث كانت المعارك تدور بين المسلمين والروم, رهيبة ضارية, كان في مقدمة الذين وقع أجرهم على الله, شهيد جليل, قطع طريق حياته منذ شبابه الباكر حتى لحظة استشهاده في مسيرة صادقة مؤمنة شجاعة..
    ورآه المسلمون وهم يفحصون شهداء المعركة, كما كان دائما, هادئ السّمت, ذكي الصمت, قوي التصميم, فقال:
    " اللهم ارض عن خالد بن سعيد"..!!

  4. #54
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    سعد بن معاذ ( هنيئا لك يا أبا عمرو )

    في العام الواحد والثلاثين من عمره, أسلم..
    وفي السابع والثلاثين مات شهيدا..
    وبين يوم إسلامه, ويوم وفاته, قضى سعد بن معاذ رضي الله عنه أياما شاهقة في خدمة الله ورسوله..

    انظروا..
    أترون هذا الرجل الوسيم, الجليل, الفارع الطول, المشرق الوجه, الجسيم, الجزل.؟؟
    انه هو..
    يقطع الأرض وثبا وركضا إلى دار أسعد بن زرارة فيرى هذا الرجل الوافد من مكة مصعب بن عمير الذي بعث به محمدا عليه الصلاة والسلام إلى المدينة يبشّر فيها بالتوحيد والإسلام..
    أجل.. هو ذاهب إلى هناك ليدفع بهذا الغريب خارج حدود المدينة, حاملا معه دينه.. وتاركا للمدينة دينها..!!

    ولكنه لا يكاد يقترب من مجلس مصعب في دار ابن خالته أسيد بن زرارة, حتى ينتعش فؤاده بنسمات حلوة هبّت عليه هبوب العافية..
    ولا يكاد يبلغ الجالسين, ويأخذ مكانه بينهم, ملقيا سمعه لكلمات مصعب حتى تكون هداية الله قد أضاءت نفسه وروحه..
    وفي إحدى مفاجآت القدر الباهرة المذهلة, يلقي زعيم الأنصار حبته بعيدا, ويبسط يمينه مبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
    وبإسلام سعد بن معاذ تشرق في المدينة شمس جديدة, ستدور في فلكها قلوب كثيرة تسلم مع حمد لله رب العالمين..!!
    أسلم سعد.. وحمل تبعات إسلامه في بطولة وعظمة..
    وعندما هاجر رسول الله وصحبه إلى المدينة كانت دور بني عبد الأشهل قبيلة سعد مفتحة الأبواب للمهاجرين, وكانت أموالهم كلها تحت تصرّفهم في غير منّ, ولا أذى.. ولا حساب..!!

    وتجيء غزوة بدر..
    ويجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار, ليشاورهم في الأمر.
    وييمّم وجهه الكريم شطر الأنصار ويقول:
    " أشيروا عليّ أيها الناس.."
    ونهض سعد بن معاذ قائما كالعلم.. يقول:
    " يا رسول الله..
    لقد آمنا بك, وصدّقناك, وشهدنا أن ما جئت به هو الحق, وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا..
    فامض يا رسول الله لما أردت, فنحن معك..
    ووالذي بعثك بالحق, لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك, وما تخلف منا رجل واحد, وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا..
    إنا لصبر في الحرب, صدق في اللقاء..
    ولعلّ الله يريك ما تقرّ به عينك...
    فسر بنا على بركة الله"...

    أهلت كلمات سعد كالبشريات, وتألق وجه الرسول رضا وسعادة وغبطة, فقال للمسلمين:
    " سيروا وأبشروا, فان الله وعدني إحدى الطائفتين.. والله لكأني أنظر إلى مصرع القوم"..
    وفي غزوة أحد, وعندما تشتت المسلمون تحت وقع الباغتة الداهمة التي فاجأهم بها جيش المشركين, لم تكن العين لتخطئ مكان سعد بن معاذ..
    لقد سمّر قدميه في الأرض بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم, يذود عنه ويدافع في استبسال هو له أهل وبه جدير..

    وجاءت غزوة الخندق, لتتجلى رجولة سعد وبطولته تجليا باهرا ومجيدا..
    وغزوة الخندق هذه, آية بينة على المكايدة المريرة الغادرة التي كان المسلمون يطاردون بها في غير هوادة, من خصوم لا يعرفون في خصومتهم عدلا ولا ذمّة..
    فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحيون بالمدينة في سلام يعبدون ربهم, ويتواصون بطاعته, ويرجون أن تكف قريش عن إغارتها وحروبها, إذا فريق من زعماء اليهود يخرجون خلسة إلى مكة محرّضين قريشا على رسول الله, وباذلين لها الوعود والعهود أن يقفوا بجانب القرشيين إذا هم خرجوا لقتال المسلمين..
    واتفقوا مع المشركين فعلا, ووضعوا معا خطة القتال والغزو..
    وفي طريقهم وهم راجعون إلى المدينة حرّضوا قبيلة من أكبر قبائل العرب, هي قبيلة غطفان واتفقوا مع زعمائها على الانضمام لجيش قريش..
    وضعت خطة الحرب, ووزعت أدوارها.. فقريش وغطفان يهاجمان المدينة بجيش عرمرم كبير..
    واليهود يقومون بدور تخريبي داخل المدينة وحولها في الوقت الذي يباغتها فيه الجيش المهاجم..
    ولما علم النبي عليه الصلاة والسلام بالمؤامرة الغادرة راح يعدّ لها العدّة.. فأمر بحفر خندق حول المدينة ليعوق زحف المهاجمين.
    وأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة إلى كعب بن أسد زعيم يهود بني قريظة, ليتبيّنا حقيقة موقف هؤلاء من الحرب المرتقبة, وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يهود بني قريظة عهود ومواثيق..
    فلما التقى مبعوثا الرسول بزعيم بني قريظة فوجئا يقول لكم:
    " ليس بيننا وبين محمد عهد ولا عقد"..!!

    عز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتعرض أهل المدينة لهذا الغزو المدمدم والحصار المنهك, ففكر في أن يعزل غطفان عن قريش, فينقض الجيش المهاجم بنصف عدده, ونصف قوته, وراح بالفعل يفاوض زعماء غطفان على أن ينفضوا أيديهم عن هذه الحرب, ولهم لقاء ذلك ثلث ثمار المدينة, ورضي قادة غطفان, ولم يبق إلا أن يسجل الاتفاق في وثيقة ممهورة..
    وعند هذا المدى من المحاولة, وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم ير من حقه أن ينفرد بالأمر, فدعا إليه أصحابه رضي الله عنهم ليشاورهم..
    واهتم عليه الصلاة والسلام اهتماما خاصا برأي سعد بن معاذ, وسعد بن عبادة.. فهما زعيما المدينة, وهما بهذا أصحاب حق أول في مناقشة هذا الأمر, واختيار موقف تجاهه..

    قصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما حديث التفاوض الذي جرى بينه وبين زعماء غطفان.. وأنبأهما أنه إنما لجأ إلى هذه المحاولة, رغبة منه في أن يبعد عن المدينة وأهلها هذا الهجوم الخطير, والحصار الرهيب..
    وتقدم السعدان إلى رسول الله بهذا السؤال:
    " يا رسول الله..
    أهذا رأي تختاره, أم وحي أمرك الله به"؟؟
    قال الرسول:
    " بل أمر أختاره لكم..
    والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة, وكالبوكم من كل جانب, فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلى أمر ما"..
    وأحسّ سعد بن معاذ أن أقدارهم كرجال ومؤمنين تواجه امتحانا, أي امتحان..
    هنالك قال:
    " يا رسول الله..
    قد كنا وهؤلاء على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه, وهم لا يطمعون أن يأكلوا من مدينتنا تمرة, إلا قرى, أي كرما وضيفة, أ, بيعا..
    أفحين أكرمنا الله بالإسلام, وهدانا له, وأعزنا بك وبه, نعطيهم أموالنا..؟؟
    والله ما لنا بهذا من حاجة..
    ووالله لا نعطيهم إلا السيف.. حتى يحكم الله بيننا وبينهم"..!!
    وعلى الفور عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه, وأنبأ زعماء غطفان أن أصحابه رفضوا مشروع المفاوضة, وأنه أقرّ رأيهم والتزم به..

    وبعد أيام شهدت المدينة حصارا رهيبا..
    والحق أنه حصار اختارته هي لنفسها أكثر مما كان مفروضا عليها, وذلك بسبب الخندق الذي حفر حولها ليكون جنّة لها ووقاية..
    ولبس المسلمون لباس الحرب.
    وخرج سعد بن معاذ حاملا سيفه ورمحه وهو ينشد ويقول:
    لبث قليلا يشهد الهيجا الجمل ما أجمل الموت إذا حان الأجل
    وفي إحدى الجولات تلقت ذراع سعد سهما وبيلا, قذفه به أحد المشركين..
    وتفجّر الدم من وريده وأسعف سريعا إسعافا مؤقتا يرقأ به دمه, وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل إلى المسجد, وأن تنصب له به خيمة حتى يكون على قرب منه دائما أثناء تمريضه..
    وحمل المسلمون فتاهم العظيم إلى مكانه في مسجد الرسول..
    ورفع سعد بصره إلى السماء وقال:
    " اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها... فانه لا قوم أحب إليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك, وكذبوه, وأخرجوه..
    وان كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم, فاجعل ما أصابني اليوم طريقا للشهادة..
    ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة"..!

    لك الله يا سعد بن معاذ..!
    فمن ذا الذي يستطيع أن يقول مثل هذا القول, في مثل هذا الموقف سواك..؟؟
    ولقد استجاب الله دعاءه..
    فكانت إصابته هذه طريقه إلى الشهادة, إذ لقي ربه بعد شهر, متأثرا بجراحه..
    ولكنه لم يمت حتى شفي صدرا من بني قريظة..
    ذلك أنه بعد أن يئست قريش من اقتحام المدينة, ودبّ في صفوف جيشها الهلع, حمل الجميع متاعهم وسلاحهم, وعادوا مخذولين إلى مكة..
    ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترك بني قريظة, يفرضون على المدينة غدرهم كما شاؤوا, أمر لم يعد من حقه أن يتسامح تجاهه..
    هنالك أمر أصحابه بالسير إلى بني قريظة.
    وهناك حاصروهم خمسة وعشرين يوما..
    ولما رأى هؤلاء ألا منجى لهم من المسلمين, استسلموا, وتقدموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجاء أجابهم إليه, وهو أن يحكم فيهم سعد بن معاذ.. وكان سعد حليفهم في الجاهلية..

    أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه من جاؤوا بسعد بن معاذ
    من مخيمه الذي كان يمرّض فيه بالمسجد..
    جاء محمولا على دابة, وقد نال منه الإعياء والمرض..
    وقال له الرسول:
    " يا سعد احكم في بني قريظة".
    وراح سعد يستعيد محاولات الغدر التي كان آخرها غزوة الخندق والتي كادت المدينة تهلك فيها بأهلها..
    وقال سعد:
    " إني أرى أن يقتل مقاتلوهم..
    وتسبى ذراريهم..
    وتقسّم أموالهم.."
    وهكذا لم يمت سعد حتى شفي صدره من بني قريظة..

    كان جرح سعد يزداد خطرا كل يوم, بل كل ساعة..
    وذات يوم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيادته, فألفاه يعيش في لحظات الوداع فأخذ عليه الصلاة والسلام رأسه ووضعه في حجره, وابتهل إلى الله قائلا:
    " اللهم إن سعدا قد جاهد في سبيلك, وصدّق رسولك وقضى الذي عليه, فتقبّل روحه بخير ما تقبّلت به روحا"..!
    وهطلت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم على الروح المودّعة بردا وسلاما..
    فحاول في جهد, وفتح عينيه راجيا أن يكون وجه رسول الله آخر ما تبصرانه في الحياة وقال:
    " السلام عليك يا رسول الله..
    أما إني لأشهد أنك رسول الله"..
    وتملى وجه النبي وجه سعد آن ذاك وقال:
    " هنيئا لك يا أبا عمرو".

    يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:
    " كنت ممن حفروا لسعد قبره..
    وكنا كلما حفرنا طبقة من تراب, شممنا ريح المسك.. حتى انتهينا إلى اللحد"..
    وكان مصاب المسلمين في سعد عظيما..
    ولكن عزاءهم كان جليلا, حين سمعوا رسولهم الكريم يقول:
    " لقد اهتز عرش الرحمن لموت يعد بن معاذ"..

  5. #55
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    زيد بن حارثة ( لم يحبّ حبّه أحد )

    وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع جيش الإسلام الذاهب لملاقاة الروم في غزوة مؤتة ويعلن أسماء أمراء الجيش الثلاثة, قائلا:
    " عليكم زيد بن حارثة.. فان أصيب زيد فجعفر بن أبي طاب.. فان أصيب جعفر, فعبدالله بن رواحة".
    فمن هو زيد بن حارثة"..؟؟
    من هذا الذي حمل دون سواه لقب الحبّ.. حبّ رسول الله..؟
    أما مظهره وشكله, فكان كما وصفه المؤرخون والرواة:
    " قصير, آدم, أي أسمر, شديد الأدمة, في أنفه فطس"..
    أمّا نبؤه, فعظيم جدّ عظيم..!!

    أعدّ حارثة أبو زيد الراحلة والمتاع لزوجته سعدى التي كانت تزمع زيارة أهلها في بني معن.
    وخرج يودع زوجته التي كانت تحمل بين يديها طفلهما الصغير زيد بن حارثة, وكلما همّ أن يستودعهما القافلة التي خرجت الزوجة في صحبتها ويعود هو إلى داره وعمله, ودفعه حنان خفيّ وعجيب لمواصلة السير مع زوجته وولده..
    لكنّ الشقّة بعدت, والقافلة أغذّت سيرها, وآن لحارثة أن يودّع الوليد وأمّه, ويعود..
    وكذا ودّعهما ودموعه تسيل.. ووقف طويلا مسمرا في مكانه حتى غابا عن بصره, وأحسّ كأن قلبه لم يعد في مكانه.. كأنه رحل مع الراحلين..!!

    ومكثت سعدى في قومها ما شاء الله لها أن تمكث..
    وذات يوم فوجئ الحيّ, حي بني معن, بإحدى القبائل المناوئة له تغير عليه, وتنزل الهزيمة ببني معن, ثم تحمل فيما حملت من الأسرى ذلك الطفل اليافع, زيد بن حارثة..
    وعادت الأم إلى زوجها وحيدة.
    ولم يكد حارثة يعرف النبأ حتى خرّ صعقا, وحمل عصاه على كاهله, ومضى يجوب الديار, ويقطع الصحارى, ويسائل القبائل والقوافل عن ولده وحبّة قلبه زيد, مسليّا نفسه, وحاديا ناقته بهذا الشعر الذي راح ينشده من بديهته ومن مآقيه:
    بكيــت على زيد ولم ادر ما فعل أحيّ فترجى؟ أم أتى دونـــــه الأجل
    فوالله ما أدري, واني لسائـــــل أغالك بعدي السهل؟ أم غالك الجبل
    تذكرينه الشمس عند طلوعها وتعرض ذكراه إذا غروبــــــــها أفل
    وان هبّـت الأرواح هيّجن ذكره فيا طول حزني عليــــــــه, ويا وجل

    كان الرّق في ذلك الزمان البعيد يفرض نفسه كظرف اجتماعي يحاول أن يكون ضرورة..
    كان ذلك في أثينا, حتى في أزهى عصور حريّتها ورقيّها..
    وكذلك كان في روما..
    وفي العالم القديم كله.. وبالتالي في جزيرة العرب أيضا..
    وعندما اختطفت القبيلة المغيرة على بني معن نصرها, وعادت حاملة أسراها, ذهبت إلى سوق عكاظ التي كانت منعقدة أنئذ, وباعوا الأسرى..

    ووقع الطفل زيد في يد حكيم بن حزام الذي وهبه بعد أن اشتراه لعمته خديجة.
    وكانت خديجة رضي الله عنها, قد صارت زوجة لمحمد بن عبدالله, الذي لم يكن الوحي قد جاءه بعد. بيد أنه كان يحمل كل الصفات العظيمة التي أهلته بها الأقدار ليكون غدا من المرسلين..

    ووهبت خديجة بدورها خادمها زيد لزوجها رسول اله فتقبله مسرورا وأعتقه من فوره,وراح يمنحه من نفسه العظيمة ومن قلبه الكبير كل عطف ورعاية..
    وفي أحد مواسم الحج. التقى تفر من حيّ حارثة بزيد في مكة, ونقلوا إليه لوعة والديه, وحمّلهم زيد سلامه وحنانه وشوقه لأمه وأبيه, وقال للحجّاج من قومه"
    " أخبوا أبي أني هنا مع أكرم والد"..

    ولم يكن والد زيد يعلم مستقر ولده حتى أغذّ السير إليه, ومعه أخوه..
    وفي مكة مضيا يسألان عن محمد الأمين.. ولما لقياه قالا له:
    "يا بن عبدالمطلب..
    يا بن سيّد قومه, أنتم أهل حرم, تفكون العاني, وتطعمون الأسير.. جئناك في ولدنا, فامنن علينا وأحسن في فدائه"..
    كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم تعلق زيد به, وكان في نفس الوقت يقدّر حق أبيه فيه..

    هنالك قال حارثة:
    "ادعوا زيدا, وخيّروه, فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء.. وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء"..!!
    وتهلل وجه حارثة الذي لك يكن يتوقع كل هذا السماح وقال:
    " لقد أنصفتنا, وزدتنا عن النصف"..
    ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى زيد, ولما جاء سأله:
    " هل تعرف هؤلاء"..؟
    قال زيد: نعم.. هذا أبي.. وهذا عمّي.
    وأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله لحارثة.. وهنا قال زيد:
    " ما أنا بالذي أختار عليك أحدا, أنت الأب والعم"..!!
    ونديت عينا رسول الله بدموع شاكرة وحانية, ثم أمسك بيد زيد, وخرج به إلى فناء الكعبة, حيث قريش مجتمعة هناك, ونادى الرسول:
    " اشهدوا أن زيدا ابني.. يرثني وأرثه"..!!
    وكاد قلب حارثة يطير من الفرح.. فابنه لم يعد حرّا فحسب, بل وابنا للرجل الذي تسمّيه قريش الصادق الأمين سليل بني هاشم وموضع حفاوة مكة كلها..
    وعاد الأب والعم إلى قومهما, مطمئنين على ولدهما والذي تركاه سيّدا في مكة, آمنا معافى, بعد أن كان أبوه لا يدري: أغاله السهل, أم غاله الجبل..!!

    تبنّى الرسول زيدا.. وصار لا يعرف في مكة كلها إلا باسمه هذا زيد بن محمد..
    وفي يوم باهر الشروق, نادى الوحي محمدا:
    (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ {5}العلق )...
    ثم تتابعت نداءاته وكلماته:
    ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ {2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {3}المدثر)...
    (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ {67}المائدة )...
    وما إن حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعة الرسالة حتى كان زيد ثاني المسلمين.. بل قيل انه كان أول المسلمين...!!

    أحبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا عظيما, وكان بهذا الحب خليقا وجديرا.. فوفاؤه الذي لا نظير له, وعظمة روحه, وعفّة ضميره ولسانه ويده...
    كل ذلك وأكثر من ذلك كان يزين خصال زيد بن حارثة أو زيد الحبّ كما كان يلقبه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام..
    تقول السيّدة عائشة رضي الله عنها:
    " ما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في جيش قط إلا أمّره عليهم, ولو بقي حيّا بعد رسول الله لاستخلفه...
    إلى هذا المدى كانت منزلة زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم..
    فمن كان زيد هذا..؟؟
    إنه كما قلنا ذلك الطفل الذي سبي, ثم بيع, ثم حرره الرسول وأعتقه..
    وانه ذلك الرجال القصير, الأسمر, الأفطس الأنف, بيد أنه أيضا ذلك الإنسان الذي" قلبه جميع وروحه حر"..
    ومن ثم وجد له في الإسلام, وفي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى منزلة وأرفع مكان, فلا الإسلام ولا رسوله من يعبأ لحظه بجاه النسب, ولا بوجاهة المظهر.
    ففي رحاب هذا الدين العظيم, يتألق بلال, ويتألق صهيب, ويتألق عمار وخبّاب وأسامة وزيد...
    يتألقون جميعا كأبرا, وقادة..
    لقد صحح الإسلام قيم الإسلام, قيم الحياة حين قال في كتابه الكريم:
    ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}الحجرات )...
    وفتح الأبواب والرحاب للمواهب الخيّرة, وللكفايات النظيفة, الأمينة, المعطية..
    وزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا من ابنة عمته زينب, ويبدو أن زينب رضي الله عنها قد قبلت هذا الزواج تحت وطأة حيائها أن ترفض شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو ترغب بنفسها عن نفسه..
    ولكن الحياة الزوجية أخذت تتعثر, وتستنفد عوامل بقائها, فانفصل زيد عن زينب.
    وحمل الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤوليته تجاه هذا الزواج الذي كان مسؤولا عن إمضائه, والذي انتهى بالانفصال, فضمّ ابنة عمته إليه واختارها زوجة له, ثم اختار لزيد زوجة جديدة هي أم كلثوم بنت عقبة..

    وذهب الشنئون يرجفون المدينة: كيف يتزوّج محمد مطلقة ابنه زيد؟؟
    فأجابهم القرآن مفرّقا بين الأدعياء والأبنياء.. بين التبني والبنّوة, ومقررا إلغاء عادة التبني, ومعلنا:
    ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم, ولكن رسول الله, وخاتم النبين).
    وهكذا عاد لزيد اسمه الأول:" زيد بن حارثة".

    والآن..
    هل ترون هذه أقوات المسلمة الخارجة إلى معارك, الطرف, أو العيص, وحسمي, وغيرها..
    إن أميرها جميعا, هو زيد بن حارثة..
    فهو كما سمعنا السيدة عائشة رضي الله عنها تقول:" لم يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في جيش قط, إلا جعله أميرا على هذا الجيش"..

    حتى جاءت غزوة مؤتة..
    كان الروم بإمبراطوريتهم الهرمة, قد بدأوا يوجسون من الإسلام خيفة..بل صاروا يرون فيها خطرا يهدد وجودهم, ولا سيما في بلاد الشام التي يستعمرونها, والتي تتاخم بلاد هذا الدين الجديد, المنطلق في عنفوان واكتساح..
    وهكذا راحوا يتخذون من الشام نقطة وثوب على الجزيرة العربية, وبلاد الإسلام...

    وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدف المناوشات التي بدأها الروم ليعجموا بها عود الإسلام, فقرر أن يبادرهم, ويقنعهم بتصميم الإسلام إلى أرض البلقاء بالشام, حتى إذا بلغوا تخومها لقيتهم جيوش هرقل من الروم ومن القبائل المستعربة التي كانت تقطن الحدود..
    ونزل جيش الروم في مكان يسمّى مشارف..
    في حين نزل جيش الإسلام بجوار بلدة تسمّى مؤتة, حيث سمّيت الغزوة باسمها...

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية هذه الغزوة وخطرها فاختار لها ثلاثة من الرهبان في الليل, والفرسان في النهار..
    ثلاثة من الذين باعوا أنفسهم لله فلم يعد لهم مطمع ولا أمنية الا في استشهاد عظيم يصافحون إثره رضوان الله تعالى, ويطالعون وجهه الكريم..
    وكان هؤلاء الثلاثة وفق ترتيبهم في إمارة الجيش هم:
    زيد بن حارثة,
    جعفر بن أبي طالب,
    عبدالله بن رواحة.
    رضي الله عنهم وأرضاهم, ورضي الله عن الصحابة أجمعين...
    وهكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقف يودّع الجيش يلقي أمره السالف:
    " عليكم زيد بن حارثة..
    فان أصيب زيد, فجعفر بن أبي طالب,...
    فان أصيب جعفر, فعبدالله بن رواحة"...
    وعلى الرغم من أن جعفر بن أبي طالب كان من أقرب الناس الى قلب ابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وسلم..
    وعلى الرغم من شجاعته, وجسارته, وحسبه ونسبه, فقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمير التالي لزيد, وجعل زيدا الأمير الأول للجيش...
    وبمثل هذا, كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر دوما حقيقة أن الإسلام دين جديد جاء يلغي العلاقات الإنسانية الفاسدة, والقائمة على أسس من التمايز الفارغ الباطل, لينشئ مكانها علاقات جديدة, رشيدة, قوامها إنسانية الإنسان...!!

    ولكأنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ غيب المعركة المقبلة حين وضع أمراء الجيش على هذا الترتيب: زيد فجعفر, فابن رواحة.. فقد لقوا ربّهم جميعا وفق هذا الترتيب أيضا..!!

    ولم يكد المسلمون يطالعون جيش الروم الذي حزروه بمائتي ألف مقاتل حتى أذهلهم العدد الذي لم يكن لهم في حساب..
    ولكن متى كانت معارك الإيمان معارك كثرة..؟؟
    هنالك أقدموا ولم يبالوا.. وأمامهم قائدهم زيد حاملا راية رسول الله صلى الله عليه وسلم, مقتحما رماح العدو نباله وسيوفه, لا يبحث عن النصر, بقدر ما يبحث عن المضجع الذي ترسو عنده صفقته مع الله الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
    لم يكن زيد يرى حواليه رمال البلقاء, ولا جيوش الروم بل كانت روابي الجنة, ورفرفها الأخضر, تخفق أمام عينيه كالأعلام, تنبئه أن اليوم يوم زفافه..
    وكان هو يضرب, ويقاتل, لا يطوّح رؤوس مقاتليه, إنما يفتح الأبواب, ويفضّ الإغلاق التي تحول بينه وبين الباب الكبير الواسع, إلي سيدلف منه إلى دار السلام, وجنات الخلد, وجوار الله..

    وعانق زيد مصيره...
    وكانت روحه وهي في طريقها إلى الجنة تبتسم محبورة وهي تبصر جثمان صاحبها, لا يلفه الحرير الناعم, بل يضخّمه دم طهور سال في سبيل الله..
    ثم تتسع ابتساماتها المطمئنة الهانئة, وهي تبصر ثاني الأمراء جعفراً يندفع كالسهم صوب الراية ليتسلمها, وليحملها قبل أن تغيب في التراب....

  6. #56
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    عبدالله بن الزبير ( أي رجل وأي شهيد )

    كان جنينا مباركا في بطن أمه, وهي تقطع الصحراء اللاهبة مغادرة مكة إلى المدينة على طريق الهجرة العظيم.
    هكذا قدّر لعبدالله بن الزبير أن يهاجر مع المهاجرين وهو لم يخرج إلى الدنيا بعد, ولم تشقق عنه الأرحام..!!
    وما كادت أمه أسماء رضي الله عنها وأرضاها, تبلغ قباء عند مشارف المدينة, حتى جاءها المخاض ونزل المهاجر الجنين إلى أرض المدينة في نفس الوقت الذي كان ينزلهاالمهاجرون من أصحاب رسول الله..!!
    وحمل أول مولود في الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره بالمدينةفقبّله وحنّكه, وكان أول شيء دخل جوف عبدالله بن الزبير ريق النبي الكريم.
    واحتشد المسلمون في المدينة, وحملوا الوليد في مهده, ثم طوّفوا به في شوارع المدينة كلها مهللين مكبّرين.
    ذلك أن اليهود حين نزل الرسول وأصحابه المدينة كبتوا واشتعلت أحقادهم, وبدأوا حرب الأعصاب ضد المسلمين, فأشاعوا أن كهنتهم قد سحروا المسلمين وسلطوا عليهم العقم, فلن تشهد المدينة منهم وليدا جديدا..
    فلما أهلّ عبدالله بن الزبير عليهم من عالم الغيب, كان وثيقة دمغ بها القدر إفك يهود المدينة وأبطل كيدهم وما يفترون..!!
    إن عبدالله لم يبلغ مبلغ الرجال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولكنه تلقى من ذلك العهد, ومن الرسول نفسه بحكم اتصاله الوثيق به, كل خامات رجولته ومبادئ حياته التي سنراها فيما بعد ملء الدنيا وحديث الناس..
    لقد راح الطفل ينمو نموّا سريعا, وكان خارقا في حيويته, وفطنته وصلابته..
    وارتدى مرحلة الشباب, فكان شبابه طهرا, وعفة ونسكا, وبطولة تفوق الخيال..
    ومضى مع أيامه وقدره, لا تتغيّر خلائقه .. إنما هو رجل يعرف طريقه, ويقطعه بعزيمة جبارة, وإيمان وثيق وعجيب..

    وفي فتح افريقية والأندلس, والقسطنطينية. كان وهو لم يجاوز السابعة والعشرين بطلا من أبطال الفتوح الخالدين..
    وفي معركة افريقية بالذات وقف المسلمون في عشرين ألف جندي أمام عدو قوام جيشه مائة وعشرون ألفا..
    ودار القتال, وغشي المسلمين خطر عظيم..
    وألقى عبد الله بن الزبير نظرة على قوات العدو فعرف مصدر قوتهم. وما كان هذا المصدر سوى ملك البربر وقائد الجيش, يصيح في جنوده ويحرضهم بطريقة تدفعهم إلى الموت دفعا عجيبا..
    وأدرك عبدالله أن المعركة الضارية لن يحسمها سوى سقوط هذا القائد العنيد..
    ولكن أين السبيل إليه, ودون بلوغه جيش لجب, يقاتل كالإعصار..؟؟
    بيد أن جسارة ابن الزبير وإقدامه لم يكونا موضع تساؤل قط..!!
    هنالك نادى بعض إخوانه, وقال لهم:
    " احموا ظهري, واهجموا معي"...
    وشق الصفوف المتلاحمة كالسهم صامدا نحو القائد, حتى إذا بلغه, هو عليه في كرّة واحدة فهوى, ثم استدار بمن معه إلى الجنود الذين كانوا يحيطون بملكهم وقائدهم فصرعوهم.. ثم صاحوا الله أكبر..
    ورأى المسلمون رايتهم ترتفع, حيث كان يقف قائد البربر يصدر أوامره ويحرّض جيشه, فأدركوا أنه النصر, فشدّوا شدّة رجل واحدة, وانتهى كل شيء لصالح المسلمين..
    وعلم قائد الجيش المسلم عبدالله بن أبي سرح بالدور العظيم الذي قام به ابن الزبير فجعل مكافأته أن يحمل بنفسه بشرة النصر إلى المدينة والى خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه..

    على أن بطولته في القتال كانت برغم تفوقها وإعجازها تتوارى أمام بطولته في العبادة.
    فهذا الذي يمكن أن يبتعث فيه الزهو, وثني الأعطاف, أكثر من سبب, يذهلنا بمكانه الدائم والعالي بين الناسكين العابدين..
    فلا حسبه, ولا شبابه, ولا مكانته ورفعته, ولا أمواله ولا قوته..
    لا شيء من ذلك كله, استطاع أن يحول بين عبدالله بن الزبير وبين أن يكون العابد الذي يصوم يومه, ويقوم ليله, ويخشع لله خشوعا يبهر الألباب.
    قال عمر بن عبدالعزيز يوما لابن أبي مليكة:صف لنا عبدالله بن الزبير..فقال:
    " والله ما رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفسه..
    ولقد كان يدخل في الصلاة فيخرج من كل شيء إليها..
    وكان يركع أو يسجد, فتقف العصافير فوق ظهره وكاهله,
    لا تحسبه من طول ركوعه وسجوده إلا جدارا, أو ثوبا مطروحا..
    ولقد مرّت قذيفة منجنيق بين لحيته وصدره وهو يصلي, فوالله ما أحسّ بها ولا اهتز لها, ولا قطع من أجلها قراءته, ولا تعجل ركوعه"..!!

    إن الأنباء الصادقة التي يرويها التاريخ عن عبادة ابن الزبير لشيء يشبه الأساطير..
    فهو في صيامه, وفي صلاته, وفي حجه, وفي علوّ همّته, وشرف نفسه..
    في سهره طوال العمر قانتا وعبدا..
    وفي ظمأ الهواجر طوال عمره صائما مجاهدا..
    وفي إيمانه الوثيق بالله, وفي خشيته الدائمة له..
    هو في كل هذا نسيج وحده..!
    سئل عنه ابن عباس فقال على الرغم مما كان بينهما من خلاف:
    " كان قارئا لكتاب الله, متبعا سنة رسوله.. قانتا لله, صائما في الهواجر من مخافة الله.. ابن حواريّ رسول الله.. وأمه أسماء بنت الصديق.. وخالته عائشة زوجة رسول الله.. فلا يجهل حقه فالا من أعماه الله"..!!

    وهو في قوة خلقه وثبات سجاياه, يزري بثبات الجبال..
    واضح شريف قوي, على استعداد دائم لأن يدفع حياته ثمنا لصراحته واستقامة نهجه..

    أثناء نزاعه مع الأمويين زاره الحصين بن نمير قائد الجيش الذي أرسله يزيد لإخماد ثورة بن الزبير..
    زاره اثر وصول الأنباء إلى مكة بموت يزيد..
    وعرض عليه أن يذهب معه إلى الشام, ويستخدم الحصين نفوذه العظيم هناك في أخذ البيعة لابن الزبير..
    فرفض عبدالله هذه الفرصة الذهبية,لأنه كان مقتنعا بضرورة القصاص من جيش الشام جزاء الجرائم البشعة التي ارتكبها رجاله من خلال غزوهم الفاجر للمدينة, خدمة لأطماع الأمويين..
    قد نختلف مع عبدالله في موقفه هذا, وقد نتمنى لو أنه آثر السلام والصفح, واستجاب للفرصة النادرة التي عرضها عليه الحصين قائد يزيد..
    ولكنّ وقفة الرجل أي رجل, إلى جانب اقتناعه واعتقاده.. ونبذه الخداع والكذب, أمر يستحق الإعجاب والاحترام..

    وعندما هاجمه الحجاج بجيشه, وفرض عليه ومن معه حصارا رهيبا, كان من بين جنده فرقة كبيرة من الأحباش, كانوا من أمهر الرماة والمقاتلين..
    ولقد سمعهم يتحدثون عن الخليفة الراحل عثمان رضي الله عنه, حديثا لا ورع فيه ولا إنصاف, فعنّفهم وقال لهم:" والله ما أحبّ أن أستظهر على عدوي بمن يبغض عثمان"..!!
    ثم صرفهم عنه في محنة هو فيها محتاج للعون, حاجة الغريق إلى أمل..!!
    إن وضوحه مع نفسه, وصدقه مع عقيدته ومبادئه, جعلاه لا يبالي بأن يخسر مائتين من أكفأ الرماة, لم يعد دينهم موضع ثقته واطمئنانه, مع أنه في معركة مصير طاحنة, وكان من المحتمل كثيرا أن يغير اتجاهها بقاء هؤلاء الرماة الأكفاء إلى جانبه..!!

    ولقد كان صموده في وجه معاوية وابنه يزيد بطولة خارقة حقا..
    فقد كان يرى أن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان آخر رجل يصلح لخلافة المسلمين, إن كان يصلح على الإطلاق.. هو محق في رأيه, فـ يزيد هذا كان فاسدا في كل شيء.. لم تكن له فضيلة واحدة تشفع لجرائمه وآثامه التي رواها إلينا التاريخ..
    فكيف يبايعه ابن الزبير؟؟
    لقد قال كلمة الرفض قوية صادعة لمعاوية وهو حي..
    وها هو ذا يقولها ليزيد بعد أن صار خليفة, وأرسل إلى ابن الزبير يتوعده بشرّ مصير..
    هناك قال ابن لزبر:
    " لا أبايع السكّير أبدا".
    ثم أنشد:
    ولا الين لغير الحق أساله حتى يلين لضرس الماضغ الحجر

    وظل ابن الزبير أميرا للمؤمنين, متخذا من مكة المكرّمة عاصمة خلافته, باسطا حكمه على الحجاز, واليمن والبصرة الكوفة وخراسان والشام كلها ما عدا دمشق بعد أن بايعه أهل الأمصار جميعا..
    ولكن الأمويين لا يقرّ قرارهم, ولا يهدأ بالهم, فيشنون عليه حروبا موصولة, يبوءون في أكثرها بالهزيمة والخذلان..
    حتى جاء عهد عبدالملك بن مروان حين ندب لمهاجمة عبدالله في مكة واحدا من أشقى بني آدم وأكثرهم إيغالا في القسوة والإجرام..
    ذلكم هو الحجاج الثقفي الذي قال عنه الإمام العادل عمر بن عبدالعزيز:
    " لو جاءت كل أمة بخطاياها, وجئنا نحن بالحجاج وحده, لرجحناهم جميعا"..!!

    ذهب الحجاج على رأس جيشه ومرتزقته لغزو مكة عاصمة ابن الزبير, وحاصرها وأهلها قرابة ستة أشهر مانعا عن الناس الماء والطعام, كي يحملهم على ترك عبدالله بن الزبير وحيدا, بلا جيش ولا أعوان.
    وتحت وطأة الجوع القاتل استسلم الأكثرون, ووجد عبدالله نفسه, وحيدا أو يكاد, وعلى الرغم من أن فرص النجاة بنفسه وبحياته كانت لا تزال مهيأة له, فقد قرر أن يحمل مسؤوليته إلى النهاية, وراح يقاتل جيش الحجاج في شجاعة أسطورية, وهو يومئذ في السبعين من عمره..!!
    ولن نبصر صورة أمينة لذلك الموقف الفذ إلا إذا أصغينا للحوار الذي دار بين عبدالله وأمه. العظيمة المجيدة أسماء بنت أبي بكر في تلك الساعات الأخيرة من حياته.
    لقد ذهب إليها, ووضع أمامها صورة دقيقة لموقفه, وللمصير الذي بدأ واضحا أنه ينتظره..
    قالت له أسماء:
    " يا بنيّ: أنت أعلم بنفسك, إن كنت تعلم أنك على حق, وتدعو إلى حق, فاصبر عليه حتى تموت في سبيله, ولا تمكّن من رقبتك غلمان بني أميّة..
    وان كنت تعلم أنك أردت الدنيا, فلبئس العبد أنت, أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك.
    قل عبد الله:
    " والله يا أمّاه ما أردت الدنيا, ولا ركنت إليها.
    وما جرت في حكم الله أبدا, ولا ظلمت ولا غدرت"..
    قالت أمه أسماء:
    " إني لأرجو أن يكون عزائي فيك حسنا إن سبقتني إلى الله أو سبقتك.
    اللهم ارحم طول قيامه في الليل, وظمأه في الهواجر, وبرّه بأبيه وبي..
    اللهم إني أسلمته لأمرك فيه, ورضيت بما قضيت, فأثبني في عبدالله بن الزبير ثواب الصابرين الشاكرين.!"
    وتبادلا معا عناق الوداع وتحيته.
    وبعد ساعة من الزمان انقضت في قتال مرير غير متكافئ, تلقى الشهيد العظيم ضربة الموت, في وقت استأثر الحجاج فيه بكل ما في الأرض من حقارة ولؤم, فأبى إلا أن يصلب الجثمان الهامد, تشفيا وخسّة..!!

    وقامت أمه, وعمرها يومئذ سبع وتسعون سنة, قامت لترى ولدها المصلوب.
    وكالطود الشامخ وقفت تجاهه لا تريم.. واقترب الحجاج منها في هوان وذلة قائلا لها:
    يا أماه, إن أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان قد أوصاني بك خيرا, فهل لك من حاجة..؟
    فصاحت به قائلة:

    " لست لك بأم..
    إنما أنا أم هذا المصلوب على الثنيّة..
    وما بي إليكم حاجة..
    ولكني أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" يخرج من ثقيف كذاب ومبير"..
    فأما الكذاب فقد رأيناه, وأما المبير, فلا أراه إلا أنت"!!
    وأقدم منها عبد الله بن عمر رضي الله عنه معزيا, وداعيا إياها إلى الصبر, فأجابته قائلة:
    " وماذا يمنعني من الصبر, وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل"..!!
    يا لعظمتك يا ابنة الصدّيق..!!
    أهناك كلمات أروع من هذه تقال للذين فصلوا رأس عبدالله بن الزبير عن رأسه قبل أن يصلبوه..؟؟
    أجل.. إن يكن رأس ابن الزبير قد قدّم هديّة للحجاج وعبدالملك.. فإن رأس نبي كريم هو يحيى عليه السلام قد قدم من قبل هدية لسالومي.. بغيّ حقيرة من بني إسرائيل!!
    ما أروع التشبيه, وما أصدق الكلمات.

    وبعد, فهل كان يمكن لعبدالله بن الزبير أن يحيا حياته دون هذا المستوى البعيد من التفوّق, والبطولة والصلاح, وقد رضع لبان أم من هذا الطراز..؟؟
    سلام على عبدالله..
    وسلام على أسماء..
    سلام عليهما في الشهداء الخالدين..
    وسلام عليهما في الأبرار المتقين.

  7. #57
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    أبو سفيان بن الحارث ( من الظلمات إلى النور )


    انه أبو سفيان آخر, غير أبو سفيان بن حرب..
    وان قصته, هي قصة الهدى بعد الضلال.. والحب بعد الكراهية..
    والسعادة بعد الشقوة..
    هي قصة رحمة الله الواسعة حين تفتح أبوابها اللاجئ ألقى نفسه بين يدي الله بعد أن أضناه طول اللغوب..!!
    تصوّروا بعد عشرين عاما قضاها ابن الحارث في عداوة موصولة للإسلام..!!
    عشرون عاما منذ بعث النبي عليه السلام, حتى اقترب يوم الفتح العظيم, وأبو سفيان بن الحارث يشدّ أزر قريش وحلفائها, ويهجو الرسول بشعره, ولا يكاد يتخلف عن حشد تحشده قريش لقتال..!!
    وكان إخوته الثلاثة: نوفل, وربيعة, وعبدالله قد سبقوه إلى الإسلام..
    وأبو سفيان هذا, ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ هو ابن الحارث بن عبدالمطلب..
    ثم هو أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة, إذ أرضعته حليمة السعدية مرضعة الرسول بضعة أيام..
    وذات يوم نادته الأقدار لمصيره السعيد, فنادى ولده جعفرا, وقال لأهله: إنا مسافران..
    إلى أين يا بن الحارث..
    إلى رسول الله لنسلم معه لله رب العالمين..
    ومضى يقطع الأرض بفرسه ويطويها طيّ التائبين..
    وعند الأبواء أبصر مقدمة جيش لجب. وأدرك أنه الرسول قاصدا مكة لفتحها.
    وفكّر ماذا يصنع..؟
    إن الرسول قد أهدر دمه من طول ما حمل سيفه ولسانه ضد الإسلام, مقاتلا وهاجيا..
    فإذا رآه أحد من الجيش, فسيسارع إلى القصاص منه..
    وان عليه أن يحتال للأمر حتى يلقي نفسه بين يدي رسول الله أولا, وقبل أن تقع عليه عين أحد من المسلمين..
    وتنكّر أبو سفيان بن الحارث حتى أخفى معالمه, وأخذ بيد ابنه جعفر, وسار مشيا على الأقدام شوطا طويلا, حتى أبصر رسول الله قادما في كوكبة من أصحابه, فتنحّى حتى نزل الركب..
    وفجأة ألقى بنفسه أمام رسول الله مزيحا قناعه فعرفه الرسول, وحو ل وجهه عنه, فأتاه أبو سفيان من الناحية الأخرى, فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم.
    وصاح أبو سفيان وولده جعفر:
    " نشهد أن لا اله إلا الله
    ونشهد أن محمدا رسول الله".
    واقترب من النبي صلى الله عليه وسلم قائلا:
    " لا تثريب يا رسول الله"..
    وأجابه الرسول:
    " لا تثريب يا أبا سفيان.
    ثم أسلمه إلى علي بن أبي طالب وقال له:
    " علم ابن عمّك الوضوء والسنة ورح به إلي"..
    وذهب به علي ثم رجع فقال له الرسول:
    " ناد في الناس أن رسول الله قد رضي عن أبي سفيان فارضوا عنه"..
    لحظة زمن, يقول الله لها: كوني مباركة, فتطوي آمادا وأبعادا من الشقوة والضلال, وتفتح أبواب رحمة ما لها حدود..!!
    لقد كاد أبو سفيان يسلم, بعد أن رأى في بدر وهو يقاتل مع قريش ما حيّر لبّه..
    ففي تلك الغزوة تخلّف أبو لهب وأرسل مكانه العاص بن هشام..
    وانتظر أبو لهب أخبار المعركة بفارغ الصبر وبدأت الأنباء تأتي حاملة هزيمة قريش المنكرة..
    وذات يوم, أبو لهب مع تفر من القرشيين يجلسون عند زمزم, إذ أبصروا فارسا مقبلا فلما دنا منهم اذا هو: أبو سفيان بن الحارث.. ولم يمهله أبو لهب, فناداه:" هلمّ إلي يا بن أخي. فعندك لعمري الخبر.. حدثنا كيف كان أمر الناس"؟؟
    قال أبو سفيان بن الحارث:
    " والله ما هو إلا أن لقينا القوم حتى منحناهم أكتافنا, يقتلوننا كيف شاءوا, ويأسروننا كيف شاءوا..
    وأيم الله ما لمت قريشا.. فلقد لقينا رجالا بيضا على خيل بلق, بين السماء والأرض, ما يشبهها شيء, ولا يقف أمامها شيء"..!!
    وأبو سفيان يريد بهذا أن الملائكة كانت تقاتل مع الرسول والمسلمين..
    فما باله لم يسلم يومئذ وقد رأى ما رأى..؟؟
    إن الشك طريق اليقين, وبقدر ما كانت شكوك أبي الحارث عنيدة وقوية, فان يقينه يوم يجيء سيكون صلبا قويا..
    ولقد جاء يوم يقينه وهداه.. وأسلم لله رب العالمين..

    ومن أولى لحظات إسلامه, راح يسابق الزمان عابدا, ومجاهدا, ليمحو آثار ماضيه, وليعوّض خسائره فيه..
    خرج مع الرسول فيما تلا فتح مكة من غزوات..
    ويوم حنين, حيث نصب المشركون للمسلمين كمينا خطيرا, وانقضوا عليهم فجأة من حيث لا يحتسبون انقضاضا وبيلا أطار صواب الجيش المسلم, فولّى أكثر أجناده الأدبار وثبت الرسول مكانه ينادي:
    " إلي أيها الناس..
    أنا النبي لا كذب..
    أنا ابن عبدالمطلب.."
    في تلك اللحظة الرهيبة, كانت هناك قلة لم تذهب بصوابها المفاجأة
    وكان منهم أبو سفيان بن الحارث وولده جعفر..
    ولقد كان أبو سفيان يأخذ بلجام فرس الرسول, وحين رأى ما رأى أدرك أن فرصته التي بحث عنها قد أهلت.. تلك أن يقضي نحبه شهيدا في سبيل الله, وبين يدي الرسول..
    وراح يتشبث بمقود الفرس بيسراه, ويرسل السيف في نحور المشركين بيمناه.
    وعاد المسلمون إلى مكان المعركة حتى انتهت, وتملاه الرسول ثم قال:
    " أخي أبو سفيان بن الحارث..؟؟"
    ما كاد أبو سفيان يسمع قول الرسول " أخي"..
    حتى طار فؤاده من الفرح والشرف. فأكبّ على قدمي الرسول يقبلهما, ويغسلهما بدموعه.
    وتحرّكت شاعريته فراح يغبط نفسه على ما أنعم الله عليه من شجاعة وتوفيق:

    لقد علمت أفنــــاء كعب وعامر غداة حنين حين عمّ التضعضع
    بأني أخو الهيجاء, أركب حدّها أمام رسول الله لا أتتعتـــــــــع
    رجاء ثواب الله والله راحـــــــم إليه تعالى كل أمر سيرجــــــع

    وأقبل أبو سفيان بن الحارث على العبادة إقبالا عظيما, وبعد رحيل الرسول عن الدنيا, تعلقت روحه بالموت ليلحق برسول الله في الدار الآخرة, وعاش ما عاش والموت أمنية حياته..
    وذات يوم شاهده الناس في البقيع يحفر لحدا, ويسويّه ويهيّئه.. فلما أبدوا دهشتهم مما يصنع قال لهم:
    " إني أعدّ قبري"..
    وبعد ثلاثة أيام لا غير, كان راقدا في بيته, وأهله من حوله يبكون..
    وفتح عينيه عليهم في طمأنينة سابغة وقال لهم:
    " لا تبكوا عليّ, فاني لم أتنظف بخطيئة منذ أسلمت"..!!
    وقبل أن يحني رأسه على صدره, لوّح به إلى أعلى, ملقيا على الدنيا تحيّة الوداع..!!

  8. #58
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    حبيب بن زيد ( أسطورة فداء وحب )

    في بيعة العقبة الثانية التي مر بنا ذكرها كثيرا, والتي بايع الرسول صلى الله عليه وسلم فيها سبعون رجلا وسيدتان من أهل المدينة, كان حبيب بن زيد وأبوه زيد بن عاصم رضي الله عنهما من السبعين المباركين..
    وكانت أمه نسيبة بنت كعب أولى السيدتان اللتين بايعتا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
    أم السيدة الثانية فكانت خالته..!!
    هو إذن مؤمن عريق جرى الإيمان في أصلابه وترائبه..
    ولقد عاش إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة لا يتخلف عن غزوة, ولا يقعد عن واجب..

    وذات يوم شهد جنوب الجزيرة العربية كذابين عاتيين يدّعيان النبوة ويسوقان الناس إلى الضلال..
    خرج أحدهما بصنعاء, وهو الأسود بن كعب العنسي..
    وخرج الثاني باليمامة, وهو مسيلمة الكذاب..
    وراح الكذابان يحرّضان الناس على المؤمنين الذين استجابوا لله, وللرسول في قبائلهما, ويحرّضان على مبعوثي رسول الله إلى تلك الديار..
    وأكثر من هذا, راحا يشوّشان على النبوة نفسها, ويعيثان في الأرض فسادا وضلالا..

    وفوجئ الرسول يوما بمبعوث بعثه مسيلمة يحمل منه كتابا يقول فيه "من مسيلمة رسول الله, إلى محمد رسول الله.. سلام عليك.. أم بعد, فاني قد أشركت في الأمر معك, وان لنا نصف الأرض, ولقريش نصفها, ولكنّ قريشا قوم يعتدون"..!!!
    ودعا رسول الله أحد أصحابه الكاتبين, وأملى عليه ردّه على مسيلمة:
    " بسم الله الرحمن الرحيم..
    من محمد رسول الله, إلى مسيلمة الكذاب.
    السلام على من اتبع الهدى..
    أما بعد, فان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده, والعاقبة للمتقين"..!!
    وجاءت كلمات الرسول هذه كفلق الصبح. ففضحت كذاب بني حنيفة الذي ظنّ النبوّة ملكا, فراح يطالب بنصف الأرض ونصف العباد..!
    وحمل مبعوث مسيلمة رد الرسول عليه السلام إلى مسيلمة الذي ازداد ضلالا وإضلالا..

    ومضى الكذب ينشر إفكه وبهتانه, وازداد أذاه للمؤمنين وتحريضه عليهم, فرأى الرسول أن يبعث إليه رسالة ينهاه فيها عن حماقاته..
    ووقع اختياره على حبيب بن زيد ليحمله الرسالة مسيلمة..
    وسافر حبيب يغذّ الخطى, مغتبطا بالمهمة الجليلة التي ندبه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ممنّيا نفسه بأن يهتدي إلى الحق, قلب مسيلمة فيذهب حبيب بعظيم الأجر والمثوبة.

    وبلغ المسافر غايته..
    وفضّ مسيلمة الكذاب الرسالة التي أغشاه نورها, فازداد إمعانا في ضلاله وغروره..
    ولما لم يكن مسيلمة أكثر من أفّاق دعيّ, فقد تحلى بكل صفات الأفّاقين الأدعياء..!!
    وهكذا لم يكن معه من المروءة ولا من العروبة والرجولة ما يردّه عن سفك دم رسول يحمل رسالة مكتوبة.. الأمر الذي كانت العرب تحترمه وتقدّسه..!!
    وأراد قدر هذا الدين العظيم, الإسلام, أن يضيف إلى دروس العظمة والبطولة التي يلقيها على البشرية بأسرها, درسا جديدا موضوعه هذه المرة, وأستاذه أيضا, حبيب بن زيد..!!

    جمع الكذاب مسيلمة قومه, وناداهم إلى يوم من أيامه المشهودة..
    وجيء بمبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم, حبيب بن زيد, يحمل آثار تعذيب شديد أنزله به المجرمون, مؤملين أن يسلبوا شجاعة روحه, فيبدو أمام الجميع متخاذلا مستسلما, مسارعا إلى الإيمان بمسيلمة حين يدعى إلى هذا الإيمان أمام الناس.. وبهذا يحقق الكذاب الفاشل معجزة موهومة أمام المخدوعين به..

    قال مسيلمة لـ حبيب:
    " أتشهد أن محمدا رسول الله..؟
    وقال حبيب:
    نعم أشهد أن محمدا رسول الله.
    وكست صفرة الخزي وجه مسيلمة وعاد يسأل:
    وتشهد أني رسول الله..؟؟
    وأجاب حبيب في سخرية قاتلة:
    إني لا أسمع شيئا..!!
    وتحوّلت صفرة الخزي على وجه مسيلمة إلى سواد حاقد مخبول..
    لقد فشلت خطته, ولم يجده تعذيبه, وتلقى أمام الذين جمعهم ليشهدوا معجزته.. تلقى لطمة قوية أسقطت هيبته الكاذبة في الوحل..
    هنالك هاج كالثور المذبوح, ونادى جلاده الذي أقبل ينخس جسد حبيب بسنّ سيفه..
    ثم راح يقطع جسده قطعة قطعة, وبضعة بضعة, وعضوا عضوا..
    والبطل العظيم لا يزيد على همهمة يردد بها نشيد إسلامه:
    " لا إله إلا الله محمد رسول الله"..

    لو أن حبيبا أنقذ حياته يومئذ بشيء من المسايرة الظاهرة لمسيلمة, طاويا على الإيمان صدره, لما نقض إيمانه شيئا, ولا أصاب إسلامه سوء..
    ولكن الرجل الذي شهد مع أبيه, وأمه, وخالته, وأخيه بيعة العقبة, والذي حمل منذ تلك اللحظات الحاسمة المباركة مسؤولية بيعته وإيمانه كاملة غير منقوصة, ما كان له أن يوازن لحظة من نهار بين حياته ومبدئه..
    ومن ثمّ لم يكن أمامه لكي يربح حياته كلها مثل هذه الفرصة الفريدة التي تمثلت فيها قصة إيمانه كلها.. ثبات, وعظمة, وبطولة, وتضحية, واستشهاد في سبيل الهدى والحق يكاد يفوق في حلاوته, وفي روعته كل ظفر وكل انتصار..!!

    وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ استشهاد مبعوثه الكريم, واصطبر لحكم ربه, فهو يرى بنور الله مصير هذا الكذاب مسيلمة, ويكاد يرى مصرعه رأي العين..
    أما نسيبة بنت كعب أم حبيب فقد ضغطت على أسنانها طويلا, ثم أطلقت يمينا مبررا لتثأرن لولدها من مسيلمة ذاته, ولتغوصنّ في لحمه الخبيث برمحها وسيفها..
    وكان القدر الذي يرمق آنئذ جزعها وصبرها وجلدها, يبدي إعجابا كبيرا بها, ويقرر في نفس الوقت أن يقف بجوارها حتى تبرّ بيمينها..!!
    ودارت من الزمان دورة قصيرة.. جاءت على أثرها الموقعة الخالدة, موقعة اليمامة..
    وجهّز أبو بكر الصدّيق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الإسلام الذاهب إلى اليمامة حيث أعدّ مسيلمة أضخم جيش..
    وخرجت نسيبة مع الجيش..
    وألقت بنفسها في خضمّ المعركة, في يمناها سيف, وفي يسراها رمح, ولسانها لا يكفّ عن الصياح:
    " أين عدوّ الله مسيلمة".؟؟
    ولما قتل مسيلمة, وسقط أتباعه كالعهن المنفوش, وارتفعت رايات الإسلام عزيزة ظافرة.. وقفت نسيبة وقد ملأ جسدها الجليل, القوي بالجراح وطعنات الرمح..

    وقفت تستجلي وجه ولدها الحبيب, الشهيد حبيب فوجدته يملأ الزمان والمكان..!!
    أجل..
    ما صوّبت نسيبة بصرها نحو راية من الرايات الخفاقة المنتصرة الضاحكة إلا رأت عليها وجه ابنها حبيب خفاقا.. منتصرا.. ضاحكا..

  9. #59
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    معاذ بن جبل ( أعلمهم بالحلال والحرام )

    عندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبابع الأنصار بيعة العقبة الثانية. كان يجلس بين السبعين الذين يتكوّن منهم وفدهم, شاب مشرق الوجه, رائع النظرة, برّاق الثنايا.. يبهر الأبصار بهدوئه وسمته. فإذا تحدّث ازدادت الأبصار انبهارا..!!
    ذلك كان معاذ بن جبل رضي الله عنه..
    هو إذن رجل من الأنصار, بايع يوم العقبة الثانية, فصار من السابقين الأولين.
    ورجل له مثل أسبقيته, ومثل إيمانه ويقينه, لا يتخلف عن رسول الله في مشهد ولا في غزاة. وهكذا صنع معاذ..
    على أن آلق مزاياه, وأعظم خصائصه, كان فقهه..
    بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهلا لقول الرسول عنه:
    " أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل"..
    وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله, وشجاعة ذكائه. سأله الرسول حين وجهه إلى اليمن:
    " بما تقضي يا معاذ؟"
    فأجابه قائلا: " بكتاب الله"..
    قال الرسول: " فإن لم تجد في كتاب الله"..؟
    "أقضي بسنة رسوله"..
    قال الرسول: " فإن لم تجد في سنة رسوله"..؟
    قال معاذ:" أجتهد رأيي, ولا آلوا"..
    فتهلل وجه الرسول وقال:
    " الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله".

    فولاء معاذ لكتاب الله, ولسنة رسوله لا يحجب عقله عن متابعة رؤاه, ولا يحجب عن عقله تلك الحقائق الهائلة المتسرّة, التي تنتظر من يكتشفها ويواجهها.
    ولعل هذه القدرة على الاجتهاد, والشجاعة في استعمال الذكاء والعقل, هما اللتان مكنتا معاذا من ثرائه الفقهي الذي فاق به أقرانه وإخوانه, صار كما وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام " أعلم الناس بالحلال والحرام".
    وإن الروايات التاريخية لتصوره العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في الأمور..
    فهذا عائذ الله بن عبدالله يحدثنا أنه دخل المسجد يوما مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول خلافة عمر..قال:
    " فجلست مجلسا فيه بضع وثلاثون, كلهم يذكرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وفي الحلقة شاب شديد الأدمة, حلو المنطق, وضيء, وهو أشبّ القوم سنا, فإذا اشتبه عليهم من الحديث شيء ردّوه إليه فأفتاهم, ولا يحدثهم إلا حين يسألونه, ولما قضي مجلسهم دنوت منه وسألته: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا معاذ بن جبل".

    وهذا أبو مسلم الخولاني يقول:
    " دخلت مسجد حمص فإذا جماعة من الكهول يتوسطهم شاب برّاق الثنايا, صامت لا يتكلم.ز فإذا امترى القوم في شيء توجهوا إليه يسألونه. فقلت لجليس لي: من هذا..؟ قال: معاذ بن جبل.. فوقع في نفسي حبه".

    وهذا شهر بن حوشب يقول:
    " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل, نظروا إليه هيبة له"..

    ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستشيره كثيرا..
    وكان يقول في بعض المواطن التي يستعين بها برأي معاذ وفقهه:
    " لولا معاذ بن جبل لهلك عمر"..

    ويبدو أن معاذ كان يمتلك عقلاً أحسن تدريبه, ومنطقا آسراً مقنعا, ينساب في هدوء وإحاطة..

    فحيثما نلتقي به من خلال الروايات التاريخية عنه, نجده كما أسلفنا واسط العقد..
    فهو دائما جالس والناس حوله.. وهو صموت, لا يتحدث إلا على شوق الجالسين إلى حديثه..
    وإذا اختلف الجالسون في أمر, أعادوه إلى معاذ ليفصل فيه..
    فإذا تكلم, كان كما وصفه أحد معاصريه:
    " كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ"..

    ولقد بلغ كل هذه المنزلة في علمه, وفي إجلال المسلمين له, أيام الرسول وبعد مماته, وهو شاب.. فلقد مات معاذ في خلافة عمر ولم يجاوز من العمر ثلاثا وثلاثين سنة..!!
    وكان معاذ سمح اليد, والنفس, والخلق..
    فلا يسأل عن شيء إلا أعطاه جزلان مغتبطا..ولقد ذهب جوده وسخاؤه بكل ماله.
    ومات الرسول صلى الله عليه وسلم, ومعاذ باليمن منذ وجهه النبي إليها يعلم المسلمين ويفقههم في الدين..

    وفي خلافة أبي بكر رجع معاذ من اليمن, وكان عمر قد علم أن معاذا أثرى.. فاقترح على الخليفة أبي بكر أن يشاطره ثروته وماله..!
    ولم ينتظر عمر, بل نهض مسرعا إلى دار معاذ وألقى عليه مقالته..

    كان معاذ ظاهر الكف, طاهر الذمة, ولئن كان قد أثري, فانه لم يكتسب إثما, ولم يقترف شبهة, ومن ثم فقد رفض عرض عمر, وناقشه رأيه..
    وتركه عمر وانصرف..
    وفي الغداة, كان معاذ يطوي الأرض حثيثا شطر دار عمر..
    ولا يكاد يلقاه.. حتى يعانقه ودموعه تسبق كلماته وتقول:
    " لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حومة ماء, أخشى على نفسي الغرق.. حتى جئت وخلصتني يا عمر"..
    وذهبا معا إلى أبي بكر.. وطلب إليه معاذ أن يشاطره ماله, فقال أبو بكر:" لا آخذ منك شيئا"..
    فنظر عمر إلى معاذ وقال:" الآن حلّ وطاب"..
    ما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درهما واحدا, لو علم أنه أخذه بغير حق..
    وما كان عمر متجنيا على معاذ بتهمة أو ظن..
    وإنما هو عصر المثل كان يزخر بقوم يتسابقون إلى ذرى الكمال الميسور, فمنهم الطائر المحلق, ومنهم المهرول, ومنهم المقتصد.. ولكنهم جميعا في قافلة الخير سائرون.

    ويهاجر معاذ إلى الشام, حيث يعيش بين أهلها والوافدين عليها معلما وفقيها, فإذا مات أميرها أبو عبيدة الذي كان الصديق الحميم لمعاذ, استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام, ولا يمضي عليه في الإمارة سوى بضعة أشهر حتى يلقى ربه مخبتا منيبا..
    وكان عمر رضي الله عنه يقول:
    " لو استخلفت معاذ بن جبل, فسألني ربي: لماذا استخلفته؟ لقلت: سمعت نبيك يقول: إن العلماء إذا حضروا ربهم عز وجل , كان معاذ بين أيديهم"..
    والاستخلاف الذي يعنيه عمر هنا, هو الاستخلاف على المسلمين جميعا, لا على بلد أو ولاية..
    فلقد سئل عمر قبل موته: لو عهدت إلينا..؟ أي اختر خليفتك بنفسك وبايعناك عليه..
    فأجاب قائلا:
    " لو كان معاذ بن جبل حيا, ووليته ثم قدمت على ربي عز وجل, فسألني: من ولّيت على أمة محمد, لقلت: ولّيت عليهم معاذ بن جبل, بعد أن سمعت النبي يقول: معاذ بن جبل إمام العلماء يوم القيامة".

    قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوما:
    " يا معاذ.. والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول في عقب كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"..
    أجل اللهم أعنّي.. فقد كان الرسول دائب الإلحاح بهذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه لا حول لهم ولا قوة, ولا سند ولا عون إلا بالله, ومن الله العلي العظيم..
    ولقد حذق معاذ لدرس وأجاد تطبيقه..
    لقيه الرسول ذات صباح فسأله:
    "كيف أصبحت يامعاذ"..؟؟
    قال:
    " أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله".
    قال النبي:
    :إن لكل حق حقيقة, فما حقيقة إيمانك"..؟؟
    قال معاذ:
    " ما أصبحت قط, إلا ظننت أني لا أمسي.. ولا أمسيت مساء إلا ظننت أني لا أصبح..
    ولا خطوت خطوة إلا ظننت أني لا أتبعها غيرها..
    وكأني أنظر إلى كل امة جاثية تدعى إلى كتابها..
    وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون..
    وأهل النار في النار يعذبون.."
    فقال له الرسول:
    " عرفت فالزم"..
    أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصيره لله, فلم يعد يبصر شيئا سواه..

    ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال:
    "إن معاذا كان أمّة, قانتا لله حنيفا, ولقد كنا نشبّه معاذا بإبراهيم عليه السلام"..

    وكان معاذ دائب الدعوة إلى العلم, وإلى ذكر الله..
    وكان يدعو الناس إلى التماس العلم الصحيح النافع ويقول:
    " احذروا زيغ الحكيم.. وارفوا الحق بالحق, فإن للحق نورا"..!!
    وكان يرى العبادة قصدا, وعدلا..
    قال له يوما أحد المسلمين: علمني.
    قال معاذ: وهل أنت مطيعي إذا علمتك..؟
    قال الرجل: إني على طاعتك لحريص..
    فقال له معاذ:
    " صم وافطر..
    وصلّ ونم..
    واكتسب ولا تأثم.
    ولا تموتنّ إلا مسلما..
    وإياك ودعوة المظلوم"..
    وكان يرى العلم معرفة, وعملا فيقول:
    " تعلموا ما شئتم أن تتعلموا, فلن ينفعكم الله بالعلم حتى تعملوا"..

    وكان يرى الإيمان بالله وذكره, استحضارا دائما لعظمته, ومراجعة دائمة لسلوك النفس.

    يقول الأسود بن هلال:
    " كنا نمشي مع معاذ, فقال لنا: اجلسوا بنا نؤمن ساعة"..
    ولعل سبب صمته الكثير كان راجعا إلى عملية التأمل والتفكر التي لا تهدأ ولا تكف داخل نفسه.. هذا الذي كان كما قال للرسول: لا يخطو خطوة, ويظن أنه سيتبعها بأخرى.. وذلك من فرط استغراقه في ذكره ربه, واستغراقه في محاسبته نفسه..

    وحان أجل معاذ, ودعي للقاء الله...
    وفي سكرات الموت تنطلق عن اللاشعور حقيقة كل حي, وتجري على لسانه ,إن استطاع الحديث, كلمات تلخص أمره وحياته..
    وفي تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم.
    فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجيا ربه الرحيم:
    " الهم إني كنت أخافك, لكنني اليوم أرجوك, اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحبّ الدنيا لجري الأنهار, ولا لغرس الأشجار.. ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات, ونيل المزيد من العلم والإيمان والطاعة"..
    وبسط يمينه كأنه يصافح الموت, وراح في غيبوبته يقول:
    " مرحبا بالموت..
    حبيب جاء على فاقه"..

    وسافر معاذ إلى الله...

  10. #60
    متذوقة قصص وروايات بالسبله العمانيه الصورة الرمزية روانـــــووو
    تاريخ التسجيل
    Jun 2015
    الجنس
    أنثى
    المشاركات
    24,728
    Mentioned
    3 Post(s)
    Tagged
    0 Thread(s)
    مقالات المدونة
    4
    سعيد بن عامر ( العظمة تحت الأسمال )
    أيّنا سمع هذا الاسم, وأيّنا سمع به من قبل..؟
    أغلب الظن أن أكثرنا, إن لم نكن جميعا, لم نسمع به قط.. وكأني بكم إذ تطالعونه الآن تتساءلون: ومن يكون عامر هذا..؟؟
    أجل سنعلم من هذا السعيد..!!

    إنه واحد من كبار الصحابة رضي الله عنهم, وان لم يكن لاسمه ذلك الرنين المألوف لأسماء كبار الصحابة.
    انه واحد من كبار الأتقياء الأخفياء..!!
    ولعل من نافلة القول وتكراره, أن ننوه بملازمته رسول الله في جميع مشاهده وغزواته.. فذلك كان نهج المسلمين جميعا. وما كان لمؤمن أن يتخلف عن رسول الله في سلم أو جهاد.
    أسلم سعيد قبيل فتح خيبر, ومنذ عانق الإسلام وبايع الرسول, أعطاهما كل حياته, ووجوده ومصيره.
    فالطاعة, والزهد, والسمو.. والإخبات, والورع, والترفع.
    كل الفضائل العظيمة وجدت في هذا الإنسان الطيب الطاهر أخا وصديقا كبيرا..
    وحين نسعى للقاء عظمته ورؤيتها, علينا أن نكون من الفطنة بحيث لا نخدع عن هذه العظمة وندعها تفلت منا وتتنكر..
    فحين تقع العين على سعيد في الزحام, لن ترى شيئا يدعوها للتلبث والتأمل..
    ستجد العين واحدا من أفراد الكتيبة .. أشعث أغبر. . ليس في ملبسه, ولا في شكله الخارجي, ما يميزه عن فقراء المسلمين بشيء.!!
    فإذا جعلنا من ملبسه ومن شكله الخارجي دليلا على حقيقته, فلن نبصر شيئا, فان عظمة هذا الرجل أكثر أصالة من أن تتبدى في أيّ من مظاهر البذخ والزخرف.
    إنها هناك كامنة مخبوءة وراء بساطته وأسماله.
    أتعرفون اللؤلؤ المخبوء في جوف الصدف..؟ إنه شيء يشبه هذا..

    عندما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب معاوية عن ولاية الشام, تلفت حواليه يبحث عن بديل يوليه مكانه.
    وأسلوب عمر في اختيار ولاته ومعاونيه, أسلوب يجمع أقصى غايات الحذر, والدقة, والأناة.. ذلك أنه كان يؤمن أن أي خطأ يرتكبه والٍ في أقصى الأرض سيسأل عنه الله اثنين: عمر أولا.. وصاحب الخطأ ثانيا..
    ومعاييره في تقييم الناس واختيار الولاة مرهفة, ومحيطة,وبصيرة, أكثر ما يكون البصر حدة ونفاذا..
    والشام يومئذ حاضرة كبيرة, والحياة فيها قبل دخول الإسلام بقرون, تتقلب بين حضارات متساوقة.. وهي مركز هام لتجارة. ومرتع رحيب للنعمة.. وهي بهذا, ولهذا درء إغراء. ولا يصلح لها في رأي عمر إلا قديس تفر كل شياطين الإغراء أمام عزوفه.. وإلا زاهد, عابد, قانت, أواب..
    وصاح عمر: قد وجدته, إليّ بسعيد بن عامر..!!
    وفيما بعد يجيء سعيد إلى أمير المؤمنين ويعرض عليه ولاية حمص..
    ولكن سعيدا يعتذر ويقول: " لا تفتنّي يا أمير المؤمنين"..
    فيصيح به عمر:
    " والله لا أدعك.. أتضعون أمانتكم وخلافتكم في عنقي.. ثم تتركوني"..؟؟!!

    واقتنع سعيد في لحظة, فقد كانت كلمات عمر حريّة بهذا الإقناع.
    أجل. ليس من العدل أن يقلدوه أمانتهم وخلافتهم, ثم يتركوه وحيدا..وإذا انفض عن مسؤولية الحكم أمثال سعيد بن عامر, فأنّى لعمر من يعينه على تبعات الحكم الثقال..؟؟
    خرج سعيد إلى حمص ومعه زوجته, وكانا عروسين جديدين, وكانت عروسه منذ طفولتها فائقة الجمال والنضرة.. وزوّده عمر بقدر طيّب من المال.
    ولما استقرّا في حمص أرادت زوجته أن تستعمل حقها كزوجة في استثمار المال الذي زوده به عمر.. وأشارت عليه بأن يشتري ما يلزمهما من لباس لائق, ومتاع وأثاث.. ثم يدخر الباقي..
    وقال لها سعيد: ألا أدلك على خير من هذا..؟؟ نحن في بلاد تجارتها رابحة, وسوقها رائجة, فلنعط المال من يتاجر لنا فيه وينمّيه..
    قالت: وإن خسرت تجارته..؟
    قال سعيد: سأجعل ضمانا عليه..!!
    قالت: فنعم إذن..
    وخرج سعيد فاشترى بعض ضروريات عيشه المتقشف, ثم فرق جميع المال في الفقراء والمحتاجين..

    ومرّت الأيام.. وبين الحين والحين تسأله زوجه عن تجارتهما وأيّان بلغت من الأرباح..
    ويجيبها سعيد: إنها تجارة موفقة.. وإن الرباح تنمو وتزيد.
    وذات يوم سألته نفس السؤال أمام قريب له كان يعرف حقيقة الأمر فابتسم. ثم ضحك ضحكة أوحت إلى روع الزوجة بالشك والريب, فألحت عليه أن يصارحها الحديث, فقال لها: لقد تصدق بماله جميعه من ذلك اليوم البعيد.
    فبكت زوجة سعيد, وآسفها أنها لم تذهب من هذا المال بطائل فلا هي ابتاعت لنفسها ما تريد, وإلا المال بقي..
    ونظر إليها سعيد وقد زادتها دموعها الوديعة الآسية جمالا وروعة.
    وقبل أن ينال المشهد الفاتن من نفسه ضعفا, ألقى بصيرته نحو الجنة فرأى فيها أصحابه السابقين الراحلين فقال:
    " لقد كان لي أصحاب سبقوني إلى الله... وما أحب أن أنحرف عن طريقهم ولو كانت لي الدنيا بما فيها"..!!

    وإذ خشي أن تدل عليه بجمالها, وكأنه يوجه الحديث إلى نفسه معها:
    " تعلمين أن في الجنة من الحور العين والخيرات الحسان, ما لو أطلت واحدة منهن على الأرض لأضاءتها جميعا, ولقهر نورها نور الشمس والقمر معا.. فلأن أضحي بك من أجلهن, أحرى أولى من أن أضحي بهن من أجلك"..!!
    وأنهى حديثه كما بدأه, هادئا مبتسما راضيا..
    وسكنت زوجته, وأدركت أنه لا شيء أفضل لهما من السير في طريق سعيد, وحمل النفس على محاكاته في زهده وتقواه..!!

    كانت حمص أيامئذ, توصف بأنها الكوفة الثانية وسبب هذا الوصف, كثرة تمرّد أهلها واختلافهم على ولاتهم.
    ولما كانت الكوفة في العراق صاحبة السبق في هذا التمرد فقد أخذت حمص اسمها لما شابهتها...
    وعلى الرغم من ولع الحمصيين بالتمرّد كما ذكرنا, فقد هدى الله قلوبهم لعبده الصالح سعيد, فأحبوه وأطاعوه.
    ولقد سأله عمر يوما فقال: " إن أهل الشام يحبونك".؟
    فأجابه سعيد قائلا:" لأني أعاونهم وأواسيهم"..!
    بيد أن مهما يكن أهل حمص حب لسعيد, فلا مفر من أن يكون هناك بعض التذمر والشكوى.. على الأقل لتثبت حمص أنها لا تزال المنافس القوي لكوفة العراق...
    وتقدم البعض يشكون منه, وكانت شكوى مباركة, فقد كشفت عن جانب من عظمة الرجل, عجيب عجيب جدا..
    طلب عمر من الزمرة الشاكية أن تعدد نقاط شكواها, واحدة واحدة..
    فنهض المتحدث بلسان هذه المجموعة وقال: نشكو منه أربعا:
    " لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار..
    ولا يجيب أحدا بليل..
    وله في الشهر يومان لا يخرج فيهما إلينا ولا نراه,
    وأخرى لا حيلة له فيها ولكنها تضايقنا, وهي أنه تأخذه الغشية بين الحين والحين"..
    وجلس الرجل:
    وأطرق عمر مليا, وابتهل إلى الله همسا قال:
    " اللهم إني أعرفه من خير عبادك..
    اللهم لا تخيّب فيه فراستي"..
    ودعاه للدفاع عن نفسه, فقال سعيد:
    أما قولهم إني لا أخرج إليهم حتى يتعالى النهار..
    " فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب.. انه ليس لأهلي خادم, فأنا أعجن عجيني, ثم أدعه يختمر, ثم اخبز خبزي, ثم أتوضأ للضحى, ثم أخرج إليهم"..
    وتهلل وجه عمر وقال: الحمد لله.. والثانية..؟!
    وتابع سعيد حديثه:
    وأما قولهم: لا أجيب أحدا بليل..
    فوالله, لقد كنت أكره ذكر السبب.. إني جعلت النهار لهم,والليل لربي"..
    أما قولهم: إن لي يومين في الشهر لا أخرج فيهما...
    " فليس لي خادم يغسل ثوبي, وليس بي ثياب أبدّلها, فأنا أغسل ثوبي ثم أنتظر أن يجف بعد حين.. وفي آخر النهار أخرج اليهم ".
    وأما قولهم: إن الغشية تأخذني بين الحين والحين..
    " فقد شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة, وقد بضعت قريش لحمه, وحملوه على جذعه, وهم يقولون له: أحب أن محمدا مكانك, وأنت سليم معافى..؟ فيجيبهم قائلا: والله ما أحب أني في أهلي وولدي, معي عافية الدنيا ونعيمها, ويصاب رسول الله بشوكة..
    فكلما ذكرت ذلك المشهد الذي رأيته أنا يومئذ من المشركين, ثم تذكرت تركي نصرة خبيب يومها, أرتجف خوفا من عذاب الله, ويغشاني الذي يغشاني"..
    وانتهت كلمات سعيد التي كانت تغادر شفتيه مبللة بدموعه الورعة الطاهرة..
    ولم يمالك عمر نفسه ونشوه, فصاح من فرط حبوره.
    " الحمد لله الذي لم يخيّب فراستي".!
    وعانق سعيدا, وقبّل جبهته المضيئة العالية...

    أي حظ من الهدى ناله هذا الطراز من الحق..؟
    أي معلم كان رسول الله..؟
    أي نور نافذ, كان كتاب الله..؟؟
    وأي مدرسة ملهمة ومعلمة, كان الإسلام..؟؟
    ولكن, هل تستطيع الأرض أن تحمل فوق ظهرها عددا كثيرا من هذا الطراز..؟؟
    انه لو حدث هذا, لما بقيت أرضا, إنها تصير فردوسا..
    أجل تصير الفردوس الموعود..
    ولما كان الفردوس لم يأت زمانه بعد فان الذين يمرون بالحياة ويعبرون الأرض من هذا الطراز المجيد الجليل.. قليلون دائما ونادرون..
    وسعيد بن عامر واحد منهم..
    كان عطاؤه وراتبه بحكم عمله ووظيفته, ولكنه كان يأخذ منه ما يكفيه وزوجه.. ثم يوزع باقيه على بيوت أخرى فقيرة...
    ولقد قيل له يوما:
    " توسّع بهذا الفائض على أهلك وأصهارك"..
    فأجاب قائلا:
    " ولماذا أهلي وأصهاري..؟
    لا والله ما أنا ببائع رضا الله بقرابة"..

    وطالما كان يقال له:
    " توسّع وأهل بيتك في النفقة وخذ من طيّبات الحياة"..
    ولكنه كان يجيب دائما, ويردد أبدا كلماته العظيمة هذه:
    " ما أنا بالمتخلف عن الرعيل الأول, بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجمع الله عز وجل الناس للحساب, فيجيء فقراء المؤمنين يزفون كما تزف الحمام, فيقال لهم: قفوا للحساب, فيقولون: ما كان لنا شيء نحاسب عليه.. فيقول الله: صدق عبادي.. فيدخلون الجنة قبل الناس"..

    وفي العام العشرين من الهجرة, لقي سعيد ربه أنقى ما يكون صفحة, وأتقى ما يكون قلبا, وأنضر ما يكون سيرة..
    لقد طال شوقه إلى الرعيل الأول الذي نذر حياته لحفظه وعهده, وتتبع خطاه..
    أجل لقد طال شوقه إلى رسوله ومعلمه.. والى رفاقه الأوّابين المتطهرين..
    واليوم يلاقيهم قرير العين, مطمئن النفس, خفيف الظهر..
    ليس معه ولا وراءه من أحمال الدنيا ومتاعها ما يثقل ظهره وكاهله,,
    ليس معه إلا ورعه, وزهده, وتقاه, وعظمة نفسه وسلوكه..
    وفضائل تثقل الميزان, ولكنها لا تثقل الظهور..!!
    ومزايا هز بها صاحبها الدنيا, ولم يهزها غرور..!!

    سلام على سعيد بن عامر..
    سلام عليه في محياه, وأخراه..
    وسلام.. ثم سلام على سيرته وذكراه..
    وسلام على الكرام البررة.. أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

صفحة 6 من 7 الأولىالأولى ... 4567 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
جميع الحقوق محفوظة للسبلة العمانية 2020
  • أستضافة وتصميم الشروق للأستضافة ش.م.م