أيها الشعر: ما/‏‏ من أنت؟
لا تصير الحياة بدونك، ولا يكتمل الهلاك من غيرك، ولا نَسْدُرُ إلا في رغبتك. لا ماء في المسامات، لا ذكرى في الصخرة، لا عطر على الزَّند، ولا وحشة إلا في تهجُّدك. لا دمع في المقلة، لا رموش في الفقد، ولا ضباب إلا في بصيرتك. لا يصير الفقد جارحاً إلا بآخر ناقة ترحل بالعاشق من أطلالك، ولا رضاب في لُعاب القُبلة سوى تهشمك. تعيثُ فينا رياحاً، تفتك بنا خراباً، تسفك لنا نخيلاً، مواعيد، أعراساً، وليس في الخِدْرِ تنهيدة إلا آهتك. تُطوّح بنا نحو الأمداء والأقاصي ولستَ بعيداً إلا في الأقمطة التي نساها إخوة يوسف في أنهُرك. تَنازلنا لك عن أكبادنا صباحاً تقلي به إفطارك فتتركنا في المسغبة صباحاً، والليل الطويل من مآثرك. لا أحشاء، لا ترقوة، لا خصر، ونحن ننحني على ركبتك. لا تصير الأم أمُّاً إلا في حليبك، ولا يكتمل العشق إلا بأنجَلِ خناجرك. لا يكون السَّفرُ شراعاً إلا في بحرك، ولا يكتمل الإياب إلا في القبر حين الموت عودتك. لا يتضوَّع الليل ريحاناً، ياسميناً، فَراشاً، فِراشاً إلا في عتمتك. لا ينبلج النهار فَزَعَاً، فَزَّاعة، فارساً مُجَندَلاً إلا في ذؤابتك. لا تدفعُ بنا سوى نحو الشِّراك، والأفخاخ، والمكائد، ولا نرتضي طريدة سواك والسُّهوب مصرعنا ومقتلك. لا تروم السماء غير سابعتك ولا تريد الأرض إلا أديمك وكل الكون دُمْيَتك. لا توقظني مجز الصغرى إلا على جبينك، ولا تهدهدني الليالي إلا في حضنك، وما تبقى من الألوان في رموز رئتك. لا تسعفنا في الكرِّ، ولا تعيننا في الفرّ، وتخذلنا في الإسناد الجانبي والخلفي، وكل الحروب رصاصتك. لا نتقدم إلا فيك، ولا نتقهقر إلا أمامك، ولا نعرف ما الذي تهرسه جنازير الدَّبابات: أضلعنا أم أضلعك؟. يُبَرِّح بنا العذاب فيك فنرتضي، ونرتضي، ونرتضي، ونرابط، ونرابط، ونرابط، ولا نستغفرك. تغور الفيافي في عيوننا ولا نستسقي بغير سرابك وغيمتك. تناديني محفوظة حبيب في لحدها، ولا تشغلني لطيفة حبيب عنك إلا فيك، وفي الهجر حنانُ مَهجرك. تستغيث بي مريم إبراهيم: «أين أنت يا الشريد ثكلتني»؟، فأظلِّلُ الرقدة في هجعتك. يبتسم سعود أمام فريق الإعدام، ويلهو زاهر بسبع رصاصات تَوَّجت صدره في لؤم كمين الرستاق عن غفلتك. يشاغب خميس الحتف بنيران تغطية الانسحاب في وادي الجزي وليس من الطلقة إلا جنونٌ في مرفقك. نهذر لك بالحكمة، فنقول “via negativa”، لكن ما الإغريق، والرومان، والحلاج إلا خيوط في جُبَّتِك. تَلِجُ البلاد في البلاد، وتهرب البلاد من البلاد، فنسير خلف النجوم، والتيه من محاسن معشرك. تشحذنا الصورة، ويكشطنا المجاز، وتغرر بنا التورية إخفاقاً في حضرتك. تؤاخينا بين المد والجزر، ولا عذر ولا عاصفة إلا في برزخك. تهدينا من صريع، إلى سجين، إلى منفيِّ، إلى بكاء، فلا نستكين حول المأدبة في اشرئباب تيتمك. لا نيزكاً أعطيتنا، لا شمساً أهديتنا، لا أرضاً وهبتنا، ونحن في النار هشيم غربتك. بزغتَ غيمة، سقطتَ سحابة، هدلتَ حمامة، ونحن في الأحشاء كِسرة في سكرتك. غاب الوقت، وغاب القول، وغاب الوله ونحن في الهيولى هولاً في تَخَلُّقك. لا أريدك، لا أحبك، بل حسبي أن لا أغادرك.
أيها الشِّعر: ما/‏‏ من أنت؟